الشيعة في عهد علي عليه السلام

(وقت القراءة: 10 - 20 دقائق)

يمكن أن نصنِّف نشاطات الشيعة في هذا العصر إلى نشاطات على الصعيد الإسلامي العام، ونشاطات على الصعيد الشيعي خاصة، وهي النشاطات المرتبطة بشؤون ومسؤوليات الخط نفسه.ورغم ان دراساتنا تتناول التشيع عموماً في نشاط قادته وأتباعه وخصومه، الاّ انّ الائمة من أهل البيت (عليهم السلام) من حيث كانوا هم محور النشاط والحركة، وكانوا هم أصحاب الكلمة في توجيه وتسيير الخط كلّه، من هنا ستشغل مواقف الائمة (عليهم السلام) الجزء الأكبر من موضوع دراساتنا. والواقع انّ مواقف الائمة (عليهم السلام) في هذا العصر كانت مختلفة من حيث مركز الاهتمام، ومن حيث كيفية التصرف، تبعاً لاختلاف ظروف هذا العصر، واختلافات حاجات المذهب من مرحلة إلى مرحلة أخرى.
غير انّا لو لاحظنا نشاطاتهم على الصعيد الشيعي خاصّة أمكن أن نكتشف ثلاثة أدوار تستغرق هذا العصر كلّه.
الدور الأول: بناء القاعدة:
ويشترك في هذا الدور كل من الامام علي،والحسن، والحسين (عليهم السلام)، حيث كان الهدف منصبّاً بالأساس على اثبات وتركيز الخط الشيعي مفهوماً وممارسةً، واعتباره الممثل الحقيقي والمستوعب للاسلام، واعتبار قيادته هي القيادة الإسلامية الشرعية. وکان هذا الدور بدءاً من وفاة الرسول صلی الله عليه وآله وسلم وحتّى مقتل الإمام الحسين (عليه السلام).
الدور الثاني: بناء الإطار التفصيلي:
وبعد اثبات أصل الخط، واطلاع الأمة على وجوده وعلى موقعه من الرسالة، يأتي الدور الثاني حيث يكون الهدف منصباً منه على بناء المحتوى التفصيلي للخط، والتعبير عن الإسلام واحكام الإسلام بالمنظار الشيعي. بعد أن برزت في الساحة مدارس فقهية وعقيدية أخرى، شرحت الإسلام بطريقتها. ويشترك في هذا الدور كل من الإمام السجاد، والباقر، والصادق، والكاظم علیهم السلام . ومعنى ذلك انّ هذا الدور يستغرق 122 عاماً. مبتدأ من حين شهادة الإمام الحسين 61هـ ومنتهياً بوفاة الإمام الكاظم 183 هـ.
الدور الثالث: دور تحصين وتوسيع القواعد الشيعية الشعبية:
ويشترك في هذا الدور كل من الإمام الرضا، والجواد، والهادي، والعسكري علیهم السلام والامام الثاني عشر في غيبته الصغرى المنتهية سنة 329، ومعنى ذلك انّ هذا الدور يستغرق 461 عاماً.
وفي هذا الدور أصبح الخط الشيعي مستكملا جوانبه النظرية وبناءه المدرسي، ويكون قد احتل موقعه بوصفه الخط البديل للخطوط الحاكمة أو التي تتعامل وتتعاون مع الحكم.
فلم يبق أمام الخط الاّ أن يحصِّن قواعده الشعبية، وينقذها من خطر الانشقاقات والتحريفات الداخلية، ومن خطر العزلة والتقوقع، ويرفعها إلى مستوى تصبح قادرة على الاستمرار والديمومة وملأ الفراغ القيادي بعد الائمة المعصومين (عليه السلام).
وهذه ثلاثة أدوار يمكن أن نوزّع عليها مرحلة عصر الأئمة. وبودّي أن أبيّن هنا بعض نقاط:
أولا: انّ هذا التوزيع ليس حديّاً تماماً، بمعنى انّ الانتقال من دور إلى دور ليس بنحو من الطفرة المفاجئة، وإنّما يأتي تدريجياً أيضاً وخلال أعوام، وعلى ذلك فحينما نعتبر الإمام السجاد ابتداء الدور الثاني، ينبغي أن نفهم مقدماً انه كما يمثل الدور الثاني هو يمثل مرحلة الانتقال أيضاً، ويعيش فترة ما بين الدورين، وهكذا حينما نعتبر الإمام الرضا بداية الدور الثالث. هو أيضاً عاش نهايات الدور الثاني، ومرحلة الانتقال منه إلى الدور الثالث.
والواقع ان هذه الظاهرة أمر طبيعي في كل تقسيم تاريخي، من حيث ان الحد الفاصل بين مرحلتين أو دورين لا يمكن أن يكون أمراً آنياً وغير متدرج، وعلى ذلك فإنّ الانتقال من مرحلة إلى مرحلة يحدث عبر فترة زمنية تعيش الصراع قد تطول وقد تقصر.
ثانياً: إنّنا في هذا التوزيع لاحظنا طبيعة النشاطات المرتبطة بالخط الشيعي خصوصاً. وهذا لا يعني انعدام النشاطات الإسلامية العامة.فقد قلنا مسبقاً انّ نشاطات الشيعة بقيادة أهل البيت (عليهم السلام) كانت في مجالين. المجال الشيعي الخاص، والمجال الإسلامي العام. ونحن في التوزيع إلى الأدوار الثلاثة لاحظنا طبيعة النشاطات في المجال الأول. وسنذكر ضمناً ما يتعلق من النشاط بالمجال الثاني.
ثالثاً: لم نلحظ في هذا التوزيع طبيعة الموقف السياسي، وطريقة التعامل مع الحكم القائم في كل دور، وسنذكر تحليل ذلك لدى دراستنا الأدوار الثلاثة تفصيلا.

الدور الأول: بناء قاعدة التشيّع 10 ـ 61 هـ
إذا كان هذا الدور هو دور بناء قاعدة التشيع، ووضع الحجر الأساس، فذاك يعني بالوجه الآخر له رفض الخلافة الحاكمة واعتبارها خلافة غير شرعية، كما انّ الطليعة التي رعاها الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وبناها بغاية استلام زعامة التجربة بعده والتي أقصيت عن الحكم ظلت تحتفظ بخطها ووجودها ولم تتنازل عن اعتبار نفسها الممثل الحقيقي للإسلام، وظلت على الدوام تحمل مسؤولية التجربة كلها، ومن هذا المنطلق عُرفت بمعارضتها للخلافة القائمة، لكنّها المعارضة الإيجابية التي تحمل معنى التصحيح والتعديل والتوجيه.
وهذه الظاهرة ملحوظة ومسجّلة حتّى في أيام الخلافة الراشدة، التي قد يبدو أنّها أقرب إلى واقع الإسلام من الحكومات التي جاءت بعدها.
فقد كان واضحاً انّ الطليعة التي تدور حول الامام علي (عليه السلام) باتت ساخطة وغير قانعة بالخلافة التي تمخَّضَ عنها مؤتمر السقيفة، وقد عبَّرت عن سخطها في أكثر من مجال، وظلت تعطي لنفسها فقط حقّ قيادة التجربة الإسلامية.
هذا هو ما يدعونا للتساؤل عن مبررات المعارضة.
والإجابة عن هذا السؤال تكفينا لمعرفة السبب في اصرار الطليعة الشيعيّة على عدم التنازل عن حقّها ورأيها في الخلافة، واصرارها على تدعيم خطها بوصفه الخط الحقيقي للإسلام.
مبررات المعارضة:وحينما نتحدث عن مبررات المعارضة، فإننا نتحدث عن خلافة السقيفة وتقييم المعارضين لها، نقاط القوة فيها ونقاط الضعف، ايجابياتها وسلبياتها، قدرتها على مواجهة الصعاب التي تحيط بالأمة وبالرسالة أو عدم قدرتها، وهكذا لياقتها في تسيير التجربة الإسلامية، ومواصلتها أو عدم لياقتها.
ذلك أن المعارضة هي تعبير عملي عن وجهة نظر الطليعة الشيعيّة في خلافة السقيفة وطريقة فهمها لها. إذن فالحديث عن مبررات المعارضة حديث بالأصل عن تقييم الطليعة الشيعية لخلافة السقيفة.
كما انّ هذا الحديث هو في الحدّ الآخر له حديث عن الطليعة، وعن عليّ قمة الطليعة ومحورها وإمامها. حديث عن لياقتها في تزعم التجربة الإسلامية، وقدرتها على تكسير كل الأطواق المحيطة بالرسالة، والتغلب على كل الصعاب التي تنتظر المسيرة.
إذن فهذا البحث بحسب الحقيقة موازنة بين الطليعة المعدّة أساساً لاستلام الزعامة، وبين الخلافة التي إنبثقت عن السقيفة، والتي قدّر لها أن تغلب وتتزعم على أن نقاط القوة في خلافة السقيفة غير قابلة للشك، ولا بحاجة إلى إيضاح.
فهم صحابة عاصروا الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) سنيناً طويلة، لازموه فيها واستفادوا منه. كما أنهم ذوو مقدرة إدارية جيدة، وفقّتهم للتغلب على صعاب كثيرة. وهم بعد ذلك وقبله أصحاب مقام اجتماعي يوفّر لهم فرصة اكتساب الأصوات، وتوحيد الكلمات، لكن مهمة تقييم خلافة السقيفة، والتعرّف على وجهة النظر الشيعية لها، والتي دفعتهم إلى الرفض والمعارضة، تدعونا إلى النظر في الصفحة الأخرى لخلافة السقيفة، أي في سلبياتها، ونقاط ضعفها إن وجدت، والنظر فيما إذا كانت هذه السلبيّات موجودة في خلافة النص ـ أقصد علياً ـ أم لا.
وإذا كانت هذه الصراحة في البحث ثقيلة على بعض القلوب، وبعض العقول، فان ذلك يدعوني لأن أصدِّر هذا البحث بأروع وأصدق كلمة قالتها خلافة السقيفة نفسها.فقد قال أبوبكر يوم تولى الخلافة:
" انّي قد وليت عليكم ولست بخيِّركم، وإن لي شيطاناً يعتريني فإن أصبت فأطيعوني، وإن أخطأت فقوّموني ".
والذي أتمناه لكل الباحثين والقارئين أن نترفع عن المغالاة في الأشخاص، وعن الوقوع تحت تأثير العصبيات المذهبية، وأن ندخل إلى البحث بروح أكثر موضوعية وحيادية ونزاهة.

طبيعة المرحلة:
ويكون من الضروري من أجل الخروج بتقييم معمّق لخلافة السقيفة أن نفهم طبيعة المرحلة، وما هي حاجات ومتطلبات الرسالة فيها. وهل كانت خلافة السقيفة بمستوى مرحلتها أم لا؟
وهنا يصح القول:
إنّ الرسالة كانت ما تزال في مرحلة البناء.
وأقصد من هذا انّ الأمة لم تبلغ مرحلة التشبع التام بمفاهيم وقيم الرسالة، وفترة عشرة سنوات متعبة ومجهدة بالحروب والغزوات لم تكن تتسع لترسيخ وتعميق الرسالة الضخمة في نفوس معتنقيها.
و ان عملية التغيير الجذري لانسان الجاهلية، وقلبه إلى انسان عالمي منفتح، هذه العملية التي كانت هي مهمة الإسلام تحتاج إلى عمر أطول وجهد أكبر، ورغم انّ الجيل الذي صنعه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ضرب أروع الأمثال في التضحية والفداء، الاّ انّه يبقى مجال للقول بأن فقاعات المنطق والتفكير والخلق الجاهلي ما تزال كامنة في أعمال الأعماق. وانّها لتطفو على السطح في كثير من الأحيان.
انّه إلى الأخير كانت اعتراضات بعض الصحابة على الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) مصابة بطريقة التفكير الجاهلي القبلي الضيق، وإلى الأخير كنّا نشاهد ـ ولو نادراً ـ الراسب الجاهلي يعبَّر عن وجوده في بعض مواقف وآراء للصحابة. ومهما بالغنا في تمجيد وتعظيم الصحابة فإنه لا يجوز أن نبلغ بذلك درجة الغلو.وإذا كنت بحاجة إلى استشهاد على ما قلت فإنّه ليس أوضح شهادة من الانحراف العريض العميق الذي جرف عدداً كبيراً من الصحابة فيما بعد فإذا الصراعات على المناصب، وإذا الركض وراء الكنوز، وإذا الاغراق في متع الحياة، كل ذلك يظهر في الصحابة أنفسهم، وبعد لم يمض على وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ربع قرن.
حتّى كان أبوبكر نفسه يقول للمهاجرين:
" رأيتم الدنيا قد أقبلت، ولمّا تُقبل وهي مقبلة حتّى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وحتّى يألم أحدكم بالاضطجاع على الصوف الاذربي كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان... ".
وكان علي (عليه السلام) يقول:
" واعلموا انكم صرتم بعد الهجرة أعراباً، وبعد الموالاة احزاباً، ما تتعلقون من الإسلام الاّ بإسمه، ولا تعرفون من الإيمان الاّ رسمه، تقولون العار ولا النار كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه... ".
وربما يكون عرض هذه الكلمات بلا لزوم، بعد أن كان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ينوّه بهذه الحقيقة، ويعلن عن توقعه للانحراف والانحدار في حديث ذود بعض أصحابه عن الحوض الذي عرضناه سابقاً وحديث نزو القردة على منبره، وحديث اختلاف الأُمة بعده.
بماذا نفسّر هذه الحقيقة؟
انّه لا يوجد تفسير معقول الاّ انّ التحوّل الذي عاشه أكثر الصحابة، في السلوك، والقيم، والمفاهيم، لمن يكن جذرياً، وكان خط التربية الإسلامية ما يزال بحاجة إلى مواصلة ومراس ليصفي آخر راسب من رواسب الجاهلية، ويطعن آخر رئة للنفس القبلي الأناني الضيق.
على انّ القضية ليست قضية الصحابة وحدهم، انّ الآلاف ومئات الآلاف التي دخلت الإسلام جديداً وقبيل وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)، والتي دخلت الإسلام بعد وفاة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)، لا تعرف عن الرسالة الجديدة الاّ الشيء القليل القليل، وهي تنتظر من مركز الدولة أن يمدّنها بالمربّين والرساليين، وهي تنظر إلى جيل الصحابة أنفسهم، وتفهم الرسالة عن طريقهم.في مرحلة البناء يكون انحراف القيادة تشويهاً للرسالة عملياً ونظرياً، إذ المفروض انّ القيادة قد تشبَّعت بمفاهيم وقيم الرسالة جميعاً وها هي تجسّدها، إذن فأي زلة فيها تعتبر زلّة في الرسالة نفسها. والذين يعتنقون الرسالة يفهمونها من سلوك القادة، ويحكمون عليها في ضوء تصرفات ومواقف القادة.
الآن، وفي القرن الخامس عشر من عمر الإسلام، حينما نريد أن نشرحه للناس فإننا نضطر إلى التذكير بمواقف رجالات الإسلام الأولين، وبالمجتمع الإسلامي الرفيع، ونعرض الإسلام للناس من خلال سلوك ذلك النموذج.
والقيادة يجب أن تكون مستوعبة للرسالة لا فقط من أجل مواصلة المسيرة، بل أيضاً من أجل حلّ المشاكل المستجدّة حلا صحيحاً، وفي صالح الرسالة نفسها. ورسالة الإسلام بعد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) كانت تواجه تراكماً في المشاكل، اثقلت ظهر الخلافة الحاكمة.
مشاكل في تنظيم المجتمع، وتنظيم الاقتصاد، وتنظيم الجيش والفتوحات، وما ينبثق عن ذلك من مسائل فقهية لا عهد للمسلمين بها أيام الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم).
ولا يكفي أن تحلّ هذه المشاكل حلاًّ سطحياً مؤقتاً، ربما يكون ذلك على حساب الرسالة في القريب أو في البعيد. انّه يجب أن يكون الحلّ جذرياً، ومشتقاً من أصول الرسالة نفسها.
خصوصاً حينما تكون الحلول مطروحة في مرحلة البناء. انّها ستعطي صورة عن واقع الرسالة، وسترسم للناس صفتها، ولا مجال ابداً للاقتناع بأن هذه مجرد وسائل مؤقتة وحلول آنيّة لا غايات ومناهج دائميّة.
على أن هناك ناحية اخرى تتدخل في تقييمنا لخلافة السقيفة.
وهي الأساس القانوني الذي اعتمدت عليه هذه الخلافة، وبه تذرَّعت للوصول إلى الحكم.
فمن ناحية يجب أن يدرس ما إذا كانت خلافة السقيفة ملتزمة عملياً بهذا الأساس وخاضعة له؟ ومن ناحية أخرى يُدرس ما إذا كان هذا الأساس يتناسب مع المرحلة أم أنّه سابق لأوانه؟وفي دراستنا هذه لا نريد أن نتعرض لمدى شرعية هذا الأساس، واقرار الشارع له، إنّما ندرس مدى توافق هذا الأساس مع مصلحة الإسلام عموماً.

عصر الأئمة (عليهم السلام)
مهمّات الدور الأول حينما نكون بصدد دراسة المهمات التي عمل الخط الشيعي على تحقيقها في هذه المرحلة، ونريد تقييم معطيات العمل من وجهة نظر نقدية، لابدّ أن ندرس اوّلا ما هي امكانيات العمل؟ وقابليات الخط على التحرك؟ وفي ضوء ذلك يمكن الحكم على النشاط في هذه المرحلة سلباً أو ايجاباً.
وهنا نلاحظ ما يلي:
أولا: لقد اقصي الامام علي علیه السلام عن الحكم، واقصي الخط الشيعي كلّه. ومعنى ذلك انّ علياً سوف لا يستطيع أن يمارس نشاطات القائد والموجّه، وكما كان مرسوماً من قبل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)، وان كل ما يستطيع أن يمارسه من نشاط فإنما هو في حدود دائرة الفرد الرعيّة لا الفرد الراعي.
ثانياً: حتّى في دائرة نشاطات الفرد الرعيّة لم يكن عليّاً مطلق العنان، ولا كان أصحابه كذلك. فموقف الخلافة من علي كان موقفاً متميّزاً حذراً لأنّ عليّاً هو الذي تزعَّم المعارضة من ناحية، وهو إن تراجع عملياً عن المطالبة بالحكم فإنّه لم يتراجع في قرارة نفسه، ولا رضي بخلافة السقيفة ولأن علياً من ناحية ثانية يختلف مع الخلافة الحاكمة في كثير من المنعطفات فله فهمه الخاص للشريعة، ولأسلوب الحكم، ولصلاحيّات الحاكم، مما لا يتفق مع تصوّرات الخلافة الحاكمة.
ولأنّ علياً من ناحية ثالثة له سابقة في الدين، وقرباً من رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، ومجداً رسالياً متفرداً، مما أعطاه في نظر الناس كلّهم موضع الصدارة في الأمة، حتّى كان المهاجرون والأنصار لا يشكون في أنّه الرجل الثاني بعد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم).
كلّ هذه الأمور جعلت الخلافة تتحفظ منه وتحذر.
فهي لا تنسى ماضيه معها، وانّه لم يبايعها الاّ مرغماً.
وهي لا تنسى موقعه عند الناس، وما يخلق لها ذلك من المشاكل.
وهي تعرف جيداً انّ علياً غير متفق معها في كثير من المواقف، ومن التصوّرات.
وانّها لتحسب لكل ذلك حساباً.وعموماً كانت الخلافة الحاكمة تحذر كل منافس، وتحتاط لأدنى توقعات المنافسة، ومن السذاجة بل من العناد أن ننفي عن الخلافة الحاكمة هذه الخاصيّة، وانها لطبيعية في كلّ حكومة تريد لنفسها الثبات والإستمرار.
مما يلاحظ في هذا المجال انّ علياً لم يُبعد عن الحكم فقط، وانّما أُبعد عن المشاركة عموماً في النشاط السياسي والعسكري، وتلك ظاهرة ألفتت نظر الباحثين.
واستمرّت هذه الظاهرة في كلّ العهود الثلاثة عهد أبي بكر وعمر وعثمان.
والمعروف انّ أبابكر ألغى سهم ذوي القربى، كما أخذ فدكاً من الزهراء، وانّ لهذين العملين مدلولا سياسياً واضحاً.
وحتّى في المجال العلمي كان للخلافة الحاكمة موقفاً من علي.
فالثابت انّ علياً حين جمع القرآن، رفضته الخلافة الحاكمة وقد كانت أحوج ما تكون إليه، ثمّ أوعزت إلى غير علي أن يتصدّى لجمع القرآن. لماذا؟
لأن أية خطوة يتقدم بها علي تكون على حساب شخصية الخليفة، وفي غير صالحه، ومن هنا رفض جمع علي للقرآن. ولم يُشرك في عملية الجمع التي تصدّت لها الخلافة مؤخراً. بينما مقام علي من القرآن معلوم.
وعلى العموم لم يكن علياً في عهد الخلفاء الثلاثة قادراً على التحرك الحرّ المطلق، ولا أصحاب علي كان لهم ذلك. المعروف انّ أبابكر حين أراد تولية خالد بن سعيد اعترض عليه عمر، وذكَّره بموقف خالد من الحكم القائم، واتجاهه العلوي. وأخيراً نزل أبوبكر عن رأيه فعزل خالداً، وولى مكانه معاوية ابن أبي سفيان.
لقد كان عمّار وكان سلمان والياً لعمر بن الخطاب في مصر وفي المدائن، وكان هؤلاء من أصحاب علي، لكن عمر عزلهم بعد حين، لوشاية بلغته فيهما، ولك أن تسأل عن مضمون هذه الوشاية، ومن القادم بها من مصر ومن المدائن إلى عمر.والتاريخ لم يكشف لنا النقاب عن مضمون تلك الوشاية، لكن من يعرف عماراً وسلمان في التزامهما الحرفي بالدين، وفي اتجاههما العلوي، يعرف حقيقة تلك الوشاية.
من المطمئن به انها ليست وشاية في سرقة أو غصب أو اكتناز الأموال أو الاستهتار بحقّ الناس، فعمار وسلمان أبعد ما يكونوا عن ذلك، ولو كانت وشاية بذلك لكن عمر يؤدبهما علناً أمام الناس.
إنما كانت وشاية في النشاط لصالح علي، ومن هنا لم يعلن عنها، ولم يؤاخذ بها، واكتفى الخليفة بعزلهما.
المقصود الآن الفات النظر إلى الرقابة التي كانت تحيط برجال علي.
وحين قال الزبير: " لو مات عمر لبايعت علياً ".
فوراً نقلت هذه الكلمة إلى الخليفة، وانتهى إليه خبرها!!
وفي عهد عمر نفسه هناك قضية رغم بساطتها فهي ذات دلالة كبيرة.
في رواية انّ الحسين قدم على عمر وهو على المنبر فقال له:
" انزل عن منبر أبي ".
وفوراً سأله الخليفة باستدراج : " من بعثك؟ ".
لقد أراد الخليفة بهذا السؤال أن يعرف ما وراء هذا التصرّف الغريب من الولد الصغير، وما إذا كان علياً هو الذي أرسله أو لا؟
ولقد بدأ عمر بهذا السؤال وهو غير شاك في انّ أحداً أرسل الحسين، أو أنّه أراد أن يحتال على الحسين في أخذ الحقيقة منه.
أمّا في عهد عثمان فنحن في غير حاجة إلى اطالة الحديث في الضغوط التي كان يواجهها الخط الشيعي، ومحاولات حجزه عن التحرك مطلقاً.
ثالثاً: وحين صار الحكم إلى علي بعد عثمان كانت المعارك والفتن تفقده كل فرص النشاط الرسالي، وتستقطب كل طاقاته وجهوده، وهو مع هذه الحراجة صنع شيئاً كثيراً في سبيل الرسالة، كما سنقرأ إن شاء الله.
وقل نفس الشيء في الحسن والحسين (عليهما السلام).
فماذا يستطيع الحسن أن يفعل ومعاوية يخيف كل صوت معارض، وانّه ليتتبَّع الشيعة واحداً واحداً.
وفي ظل هذه الضغوط كيف نتوقّع من الخط الشيعي أن يفتح للإسلام كل فتح وهو مخنوق، مطارد، مراقب؟إذن يجب أن نأخذ في الحساب طبيعة ظروف المرحلة، وفي ضوءها نستطيع تقييم نشاط الخطّ الشيعي والمهمات التي توفّر لإنجازها.
رغم انّ الضرورة السياسية كانت تفرض على الطليعة الشيعية مصافحة الخلافة الحاكمة وتجنب مناهضتها كما ستعرف. ورغم انّ الشيعة ومعهم علي قد بايعوا أخيراً وكسروا الجدار النفسي الذي حدث باقصائهم عن الحكم، والخروج على حقهم.
رغم كل ذلك فإن الاعلان عن عدم شرعية هذه الخلافة، ورفض اعتبارها القيّم على الإسلام والمسلمين، بات من مهمّات المرحلة التي سعى الشيعة إلى تحقيقها.
كان من الضروري جداً التأكيد أمام الرأي العام الإسلامي على هذه الحقيقة.
حقيقة انّ التجربة الإسلاميّة لم تصبح بيد قيادتها الشرعيّة، وانّ الخلافة الحاكمة بديلا غير كفوء، ولا يمكن اعتباره الأمين على هذه التجربة والوجه الحقيقي لها.
كان ضرورياً الاعلان عن انّ الزعامة الحقيقية لعلي، وهو وحده الذي يعبّر بأمانة وباستيعاب، ويجسّد بصدق وشمول كل أهداف، ومفاهيم، وأبعاد الرسالة.
كان ذلك ضرورياً، لأجل أن تبقى الرسالة نقيّة في فهم الناس، ولأجل أن لا تُحمل على الرسالة المواقف الخاطئة، والمنخفضة التي قد تتورط فيها الخلافة الحاكمة.
نحن قلنا انّ الرسالة ما تزال في مرحلة البناء، والأمة بعد غير مشبّعة روحياً ونظرياً ولا بلغت في فهمها العمق النهائي لرسالتها.
المفاهيم التي جسّدها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) بحاجة إلى تركيز، وتأطير، لتصبح صيغاً رساليةً ثابتة في رسالة الإسلام.
وهناك حاجة إلى تأكيد انّ القيم التي جسّدها رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) لم تكن له وحده، وانّما كانت لكلّ الناس، ومحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) هو النموذج للرجل المؤمن الرسالي.وهناك حاجة إلى إشعار الناس بأن الرسالة ليست فوق مستوى البشر، ولا تجسيدها حرفياً أمر خارج عن المقدور، فالإنحراف ليس ضرورة، ومحمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يكن بدعاً من الناس، إنّما كان بشراً، والرسالة هي التي صقلته، وهي قادرة على أن تصقل كلّ الناس.
والخلافة الحاكمة لم تكن عند مستوى هذه الضرورات الإساسية.
الخلافة الحاكمة هي شخصياً عاشت الإنحراف، واعترفت به.
وهي شخصياً لم تكن تهضم كلّ مفاهيم الرسالة.
وهي شخصياً شاركت في خلق هذا المفهوم، مفهوم أنّ الالتحام التام مع الرسالة أمر غير مقدور، ولا مطلوب، انّما محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وحده كان مسؤولا وقادراً على ذلك.
الخليفة الأول ركّز هذا المفهوم وساعد عليه من حيث لا يدري حينما قال: " لا تؤاخذوني فلست بنبيّكم ".
من هنا كانت الحاجة إلى اعلان عدم قيمومة الخلافة الحاكمة على الرسالة، ورفض اعتبارها النموذج الأمثل للانسان الرسالي.
لأجل أن لا تزول ثقة الناس بالرسالة، ولأجل أن لا تحرّف من نظر الناس، ولأجل أن لا يشك الناس في قدرة، رسالتهم على بناء الشخصية النموذجية، وتكوين المجتمع الملتزم بكل مفاهيمها.هذا نظرياً...
وعملياً كان لابدّ من خلق فئة واعية نموذجية، تجسّد مفاهيم الرسالة، وتشرحها للناس من خلال هذا التجسيد.
كان لابدّ من بناء قاعدة حصينة، وراسخة، تؤكد في الناس قيم الرسالة وتصوّراتها، وتحافظ على أمل الأمة برسالتها وبقادتها الحقيقيين، وحتّى لا تصاب بالإنهيار النفسي، واليأس من بلوغ الأهداف والأبعاد القصوى للرسالة.هذه الفئة بنفس وجودها، تقنع الأمة بأن رسالتها حيّة، وسوف تبقى حيّة، وإنّ رسالتها رسالة واقعيّة، وجديرة بالنجاح في تربية الإنسان، وخلق المجتمع الملتزم، وليست رسالة متنكرة لدوافع الإنسان، وحاجاته، وغرائزه. وانّ رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يكن رسولا لأنه ينزل عليه الوحي، وإنّما لأنّه اندمج مع الرسالة، فهو قدوة لكلّ الناس، وهو مَثَل ينبغي أن يسار باتجاهه.
وسوف تشترك هذه الفئة في مهمّة الرقابة الرسالية على الخلافة الحاكمة، تصحح، وتوجّه، وتنصح، وتردع، وتكشف للناس الأخطاء إذا تعذر عليها أن تصحح تلك الأخطاء.
وكان علي (عليه السلام) هو محور النشاط في هذه المهمّة، والعَصَب الرئيسي له.
كان هو القادر على انتزاع صفة الشرعية من الخلافة الحاكمة.
وكان هو القادر على تعزيز وتحصين الفئة النموذجية الواعية.
وكان هو القادر على أن يعرض نفسه للناس بوصفه القيادة الشرعية، والقيّم الحقيقي على الرسالة، والتعبير الصادق عن مفاهيمهما وتصوراتها.
وكانت الطليعة تلتفّ حول علي، تحصّن نفسها به، وتشترك معه بالتالي في مجموع المهمّات.
وسنرى الآن مقدار الجهد الذي بذله الإمام علي، وبذلته الكتلة الشيعية في هذا السبيل.
كان أوّل اعلان عن عدم شرعية خلافة السقيفة يوم رفض علي (عليه السلام) والملتفّون حوله البيعة، وأصرّوا على هذا الرفض.
فالمؤرّخون يحدّثون انّه امتنع عن البيعة عليّ، ومعه جماعة من المهاجرين وجماعة من الأنصار وتحصّنوا في داره ومع بعضهم سلاح.
انظروا.. رغم انّ علياً لم ينهض بأصحابه لضرب الحكم القائم، حسب ما اقتضاه الوضع السياسي، الاّ انّه لم يكن مستعداً للإقرار لهذا الحكم، دون أن يسجل للناس ولتاريخ الرسالة الطويل موقفه السلبي تجاهه.
وقد تعمّد أن يبقى على هذا الرفض، هو والهاشميون ومن كان معه من غيرهم، ويعرّف الناس بحقيقة موقفة، حتّى تضطره الخلافة الحاكمة إلى البيعة، فيعرف الرأي العام أنّه كان مقهوراً لا مختاراً.هذا ما حدث..
فبمشهد من عموم المسلمين جاءت رُسُل الخلافة الحاكمة تهدّد عليّاً والمتحصنون معه باحراق الدار عليهم، حتّى أثار ذلك مشاعر الناس، فقيل لعمر: وهو يرأس ذلك الجمع إن فيها فاطمة؟ قال: وإن.
وأُخرج علي مقاداً، مكتوفاً، وإنّه ليستطيع أن يفعل الشيء الكثير، لكنّه لم يفعل، لأنّه يريد أن يعرف الرأي العام واقع الحال.
وفي الجامع المزدحم بالناس، الذين شرأبت اعناقهم لمعرفة ما يحدث، وكيف يصنع علي، وكيف تتعامل معه الخلافة.
في مشهد من هؤلاء الناس، وعلي مكبّل يسأل:
فإن لم أبايع؟
يقال له: إذن تقتل؟!
فيقول: أتقتلون عبداً لله وأخاً لرسوله؟!
ويقول:
" يا معشر المهاجرين: الله الله لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان منّا القارئ لكتاب الله، الفقيه لدين الله، العالم بالسنّة، المضطلع بأمر الرعية، والله انّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بعداً ".
ولمدة ستة أشهر ظلّ (عليه السلام) ممتنعاً، ووجوه الناس نحوه مصوّبة، أليس يكفي ذلك في تعريف الناس برأيه.
تقول الرواية: " حتّى إذا ماتت فاطمة انصرفت وجوه الناس عنه " فبايع بعد ذلك، وفي رواية أنه بايع بعد ستة أشهر.
لماذا يفعل ذلك علي؟ وهو يعلم علم اليقين انّ ناصره قليل وخاذله كثير، ولا أمل في استرجاع حقّه.
وهل كان علي سيبقى رافضاً، معتزلا، بعيداً عن الناس، ما بقيت خلافة السقيفة في الحكم..؟
جزماً لم يكن علي يرتكب ذلك، انّه ليس من صالح الرسالة، ولا الأمّة.
انّما كان يريد أن يسجل الرفض، لأجل التسجيل فقط، ولأجل تعريف الناس بلغة رافض، رافض.
: المصدر :
بتصرف من کتاب تاریخ التشيع الفکري والسياسي/ السید صدر الدين القبانجي

 


طباعة   البريد الإلكتروني