الشيعة في إيران

(وقت القراءة: 5 - 10 دقائق)

إن التشيع هو المذهب الساحق في إيران من أوائل القرن العاشر (905 ه) إلى يومنا هذا و ذلك أن الدولة الصفوية الشيعية هي التي أشاعت التشيع في إيران،و في عصرها تثبت أركانه،و تعلق به المسلمون تعلقا عظيما،و تزايد عدد الشيعة بتقادم السنين،فلو بلغ عدد النفوس في إيران الإسلامية قرابة ستين مليونا،فالأكثرية هم الشيعة،و لا يتجاوز عدد سائر الطوائف عن أربع ملايين نسمة،يرفل الجميع بثوب الاخوة الإسلامية و المحبة و التفاهم في ظل العقائد العظيمة التي يتمسك بها الشيعة و التي تحدد علاقتهم بإخوانهم من سائر المذاهب الإسلامية،و التي كرسها قيام الجمهورية الإسلامية المباركة،بزعيمها الراحل الإمام الخمينيـقدس سرهـ،و الذي دعا إلى تقوية الترابط بين المذاهب الإسلامية المختلفة،و أمر بإثبات أيام معينة خلال العام أسميت باسبوع الوحدة،و على نفس خطاه و اصل خلفه سماحة آية الله السيد علي الخامنئي تعهد شجرة الوحدة بتكافل جميع المسؤولين في الدولة الإسلامية المباركة،و التي يلمسها بوضوح كل من زار هذه الدولة أو مر بها.
ثم إن هنا أمورا لا محيص عن طرحها و تحليلها لأنها من المواضيع التي كثر فيها اللغط،و قد أكثر المستشرقون و غيرهم فيها الصخب و الهياج و هي:
1ـما هو السبب الحقيقي لدخول الفرس في الإسلام؟
2ـما هو السبب الحقيقي لجنوحهم إلى آل البيت؟
3ـ سببان مزعومان:الاصهار، و إرادة هدم الإسلام.
و إليك تحليل تلك النقاط:
1ـ ما هو السبب الحقيقي لدخول الفرس في الإسلام
إن الفرس دخلوا في الإسلام كدخول سائر الشعوب،و العلة في الجميع واحدة أو متقاربة،و حاصلها:أنهم وقفوا على أن في هذه الشريعة الغراء من سمات العدل و المساواة،و رفض التمييز العنصري،و النظام الطبقي،و أن الناس فيه كأسنان المشط لا فضل لأعجمي على عربي و لا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى و كانت الثورة الإسلامية تحمل يوم تفجرها رايات العدل العظيمة،فكان ذلك هو الدافع المهم للشعوب للدخول في الإسلام،و الانضواء تحت رايته،من غير فرق بين قوم دون قوم و شعب دون شعب.
2ـ ما هو السبب الحقيقي لولائهم إلى آل البيت
إن السبب الحقيقي لولائهم و جنوحهم إلى أهل البيت هو أنهم شاهدوا أن عليا و أهل بيتهـخلافا للخلفاء عامتهمـيكافحون فكرة القومية و يطبقون المساواة،فأخذوا يتحننون إليهم حينا بعد حين،و شبرا بعد شبر،فكان ذلك نواة لبذر الولاء في قلوب بعضهم،يرثه الأبنآء من الآباء،و إن لم يكن الحبـيوم ذاكـملازما للقول بخلافتهم عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و إمامتهم بعده،بل كان حبا و ودا خالصا لأسباب نفسية لا قيادية،و تدل على ذلك عشرات من القضايا نذكر بعضها:
1ـروى الفضل بن أبي قرة عن الإمام الصادقـعليه السلامـقال:«أنت المولي أمير المؤمنينـعليه السلامـفقالوا:نشكوا إليك هؤلاء العرب،إن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كان يعطينا معهم العطايا بالسوية،و زوج سلمان،و بلالاو صهيبا،و أبوا علينا هؤلاء،فقالوا:لا نفعل،فذهب إليهم أمير المؤمنينـعليه السلامـفكلمهم فيهم،فصاح الأعاريب:أبينا ذلك يا أبا الحسن،أبينا ذلك،فخرج و هو مغضب يجر رداءه و هو يقول:يا معشر الموالي إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلة اليهود و النصارى،يتزوجون إليكم و لا يزوجونكم،و لا يعطونكم مثل ما يأخذون،فاتجروا بارك الله لكم،فاني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول:الرزق عشرة أجزاء،تسعة أجزاء في التجارة و واحدة في غيرها» (1) .
2ـو روى أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي في غاراته:عن عباد بن عبد الله الأسدي،قال :كنت جالسا يوم الجمعة،و عليـعليه السلامـيخطب على منبر من آجر،و ابن صوحان جالس،فجاء الأشعث فجعل يتخطى الناس فقال:يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على وجهك،فغضب،فقال ابن صوحان:ليبين اليوم من أمر العرب ما كان يخفى،فقال عليـعليه السلامـ:«من يعذرني من هؤلاء الضياطرة،يقبل أحدهم يتقلب على حشاياه،و يهجد قوم لذكر الله،فيأمرني أن أطردهم فأكون من الظالمين،و الذي فلق الحبة و برأ النسمة لقد سمعت محمدا صلى الله عليه و آله و سلم يقول:ليضربنكم و الله على الدين عودا كما شربتموهم عليه بدءا».
قال مغيرة:كان عليـعليه السلامـأميل إلى الموالي و ألطف بهم،و كان عمر أشد تباعدا منهم (2) .
3ـ روى ابن شهر آشوب:لما ورد بسبي الفرس إلى المدينة أراد عمر بيع النساء،و أن يجعل الرجال عبيد العرب،و عزم على أن يحملوا العليل و الضعيف،و الشيخ الكبير في الطواف و حول البيت على ظهورهم،فقال أمير المؤمنينـعليه السلامـ:«إن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال :أكرموا كريم قوم و إن خالفوكم،و هؤلاء الفرس حكماء كرماء،فقد ألقوا إلينا بالسلام،و رغبوا في الإسلام،و قد أعتقت منهم لوجه الله حقي و حق بني هاشم»فقالت المهاجرون و الأنصار :قد وهبنا حقنا لك يا أخا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقال:«اللهم فاشهد أنهم قد وهبوا،و قبلت و أعتقت»،فقال عمر:سبق إليها علي بن أبي طالبـعليه السلامـو نقض عزمتي في الأعاجم (3) .
4ـ روى الصدوق عن الإمام الصادقـعليه السلامـ:قال:قال رجل له:إن الناس يقولون:من لم يكن عربيا صلبا،أو مولى صريحا،فهو سفلي،فقال:«و أي شي‏ء المولى الصريح»؟!فقال له الرجل:من ملك أبواه،فقال:«و لم قالوا هذا»؟!قال:يقول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم مولى القوم من أنفسهم،فقال:«سبحان الله،أما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال:أنا مولى من لا مولى له،أنا مولى كل مسلم،عربيها و عجميها،فمن والى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أليس يكون من نفس رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم؟ثم قال :أيهما أشرف،من كان من نفس رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أو من كان من نفس إعرابي جلف بائل على عقبيه؟ثم قال:من دخل في الإسلام رغبة،خير ممن دخل رهبة،و دخل المنافقون رهبة،و الموالي دخلوا رغبة» (4) .
5ـ روى الفضل بن شاذان (المتوفى عام 260 ه) :أن عمر بن الخطاب نهى عن أن يتزوج العجم في العرب و قال:لأمنعن فروجهن إلا من الأكفاء (5) .
6ـ روى المفيد:أن سلمان الفارسيـرضي الله عنهـدخل مسجد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم فعظموه و قدموه و صدروه اجلالا لحقه،و إعظاما لشيبته،و اختصاصه بالمصطفى صلى الله عليه و آله فدخل عمر فنظر إليه،فقال:من هذا العجمي المتصدر فيما بين العرب؟فصعد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم المنبر و خطب،فقال:«إن الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط،لا فضل للعربي على العجمي،و لا للأحمر على الأسود إلا بالتقوى،سلمان بحر لا ينزف،و كنز لا ينفذ،سلمان منا أهل البيت،سلسل يمنح الحكمة و يؤتى البرهان» (6) .
7ـ روى الثقفي في الغارات:إن امرأتين أتتا علياـعليه السلامـعند القسمة،إحداهما من العرب،و الأخرى من الموالي،فأعطى كل واحدة خمسة و عشرين درهما،و كرا من الطعام،فقالت العربية :يا أمير المؤمنين!إني امرأة من العرب،و هذه امرأة من العجم،فقال عليـعليه السلامـ:«إني لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفي‏ء فضلا على بني إسحاق» (7) .
قال مغيرة:كان عليـعليه السلامـأميل إلى الموالي و ألطف بهم،و كان عمر أشد تباعدا منهم
8ـ روى المفيد عن ربيعة و عمارة و غيرهما:إن طائفة من أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مشوا إليه عند تفرق الناس عنه و فرار كثيرمنهم إلى معاوية،طلبا لما في يديه من الدنيا،فقالوا له:يا أمير المؤمنين اعط هذه الأموال،و فضل هؤلاء الأشراف من العرب و قريش على الموالي و العجم،و من يخاف خلافه عليك من الناس و فراره إلى معاوية.
فقال لهم أمير المؤمنينـعليه السلامـ:«أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟!لا و الله لا أفعل ما طلعت شمس و لاح في السماء نجم،و لو كانت أموالهم لي لواسيت بينهم،فكيف و إنما هي أموالهم» (8) .
9ـ روى المبرد:قال الأشعث بن قيس لعلي بن أبي طالبـعليه السلامـو أتاه يتخطى رقاب الناس و علي على المنبر،فقال:يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على قربك،قال:فركض على المنبر برجله،فقال صعصعة بن صوحان العبدي:ما لنا و لهذا؟ـيعني الأشعثـليقولن أمير المؤمنين اليوم في العرب قولا لا يزال يذكر،فقال علي:«من يعذرني من هذه الضياطرة يتمرغ أحدهم على فراشه تمرغ الحمار،و يهجر قوم للذكر،فيأمرني أن أطرادهم،ما كنت لأطردهم فأكون من الجاهلين،و الذي فلق الحبة،و برأ النسمة ليضربنكم على الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدءا» (9) .
هذه الشواهد الكثيرة توقفنا على السبب الحقيقي لتوجه الفرس و الموالي إلى آل البيت،و أنه لم يكن إلا لصمودهم في طريق تحقيق العدل و المساواة،و المكافحة ضد العنصرية و التعصب .
3ـ سببان مزعومان:الاصهار،و إرادة هدم الإسلام
أولا:هل الاصهار كان سببا للولاء
روى الزمخشري في ربيع الأبرار و غيره:إن الصحابة جاءوا بسبي فارس في خلافة الخليفة الثاني كان فيهم ثلاث بنات ليزدجرد،فباعوا السبايا،و أمر الخليفة ببيع بنات يزدجرد فقال الإمام علي:«إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن»فقال الخليفة:كيف الطريق إلى العمل معهن؟فقال :«يقومن و مهما بلغ ثمنهن قام به من يختارهن»فقومن فأخذهن علي فدفع واحدة لعبد الله بن عمر و أخرى لولده الحسين و أخرى لمحمد بن أبي بكر،فأولد عبد الله بن عمر:ولده سالما،و أولد الحسين:زين العابدين،و أولد محمد:ولده القاسم،فهؤلاء أولاد خالة،و أمهاتهم بنات يزدجرد (10) .
و قد استند إلى هذه القصة أحمد أمين في فجر الإسلام،و الدكتور حسن إبراهيم في التاريخ السياسي للإسلام (11) ،و ذهبا إلى أن الاصهار صار سببا لتشيع الفرس.
لن ندخل في نقاش مع هذه القصة و أنها هل هي صادقة أو مما وضعه أصحاب الأساطير،و كفانا في هذا الأمر ما ألفه زميلنا العزيز الدكتور السيد جعفر شهيدي (12) ،و لو وقفنا إلى جانب هذه القصة و سلمنا بها،فإنا نسأل‏أي صلة بين دخول الفرس في التشيع و مصاهرة الإمام الحسين يزدجرد،فلو كانت تلك علة فليكن تسنن الفرس لاصهار عبد الله بن عمر و محمد بن أبي بكر لهم،فإن الرجلين من أبناء الخليفتين،على أن هذا التفسير يدل على سطحية في التفكير و سقما في المنطق لا يقربه العقلاء.
ثانيا:إرادة هدم الإسلام
أثار بعض أعداء الإسلام،و من أعماه الحقد و خبث السريرة،الكثير من الشبهات حول تمسك الفرس بالمذهب الشيعي،و ولائهم العميق لأهل البيتـعليهم السلامـ،و من هذه الشبهات السقيمة التي وجدت من يطبل لها و يزمر،هي ان الفرس ما دخلوا في المذهب الشيعي إلا للتستر من أجل هدم الإسلام تحت هذا الغطاء.
و إلى هذا الرأي السقيم يذهب ضمنا أحمد أمين في تخرصاته دون أن يحاسب نفسه على تقولاته التي هي أشد المعاول هدما في صرح الإسلام لا الفرس الذين يتهمهم ظلما و جورا،حيث قال :و الحق أن التشيع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد،و من كان يريد ادخال تعاليم آبائه من يهودية و نصرانية و زرادشتية و هندية،و من يريد استقلال بلاده و الخروج على مملكته،كل هؤلاء كانوا يتخذون حب أهل البيت ستارا!! (13) .
و قد استغل هذه الطروحة الخبيثة الكاتب الأمريكي«لو تروب ستوارد»في كتابه«حاضر العالم الإسلامي»الذي نقله إلى العربية الأميرشكيب أرسلان،و تجد الفكرة أيضا عند صاحب المنار،و محب الدين الخطيب،و غيرهم من كتاب العصر.
و هذا الكلام أشبه بكلام من أعمى الله بصره و بصيرته،فإن من نظر إلى تاريخ الفرس يجد إنهم خدموا الإسلام بنفسهم و نفيسهم و أقلامهم و آرائهم من غير فرق بين الشيعي و السني،و خدمات المذهب الشيعي للإسلام أعظم من أن تحصى،و أوضح من أن تخفيها ارهاصات الحاقدين،و قد تقدم منا في الصفحات الأولى و ما بعدها دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية،و ما شيعة الفرس إلا جزء من عموم الشيعة المسلمين،و لهم أيادي بيضاء مشكورة في خدمة الإسلام،و لن يضرهم نفث السموم و تخرص المتخرصون.
تعليقات:
1ـالكليني:الكافي 5/ .318
2ـالثقفي:الغارات 340 طبع بيروت،الحمراء:الموالي،الضياطرة جمع الضياطر:الضخام الذين لا عناد عندهم.
3ـابن شهر آشوب:مناقب آل أبي طالب 4/ .48
4ـالصدوق:معاني الأخبار .405
5ـالفضل بن شاذان:الايضاح .280
6ـالمفيد:الاختصاص .341
7ـالغارات: .341
8ـالمفيد:المجالس 57 طبعة النجف.
9ـالكامل:2/53 طبع مصر سنة 1339 ه.
10ـربيع الأبرار.
11ـتاريخ الإسلام السياسي:2/ .7
12ـالإمام علي بن الحسين،باللغة الفارسية.
13ـفجر الإسلام:فصل الشيعة.
دور الشيعة في بناء الحضارة السلامية ص 111
جعفر السبحاني


طباعة   البريد الإلكتروني