المآتم في لبنان

(وقت القراءة: 3 - 5 دقائق)
في لبنان وتوابعهما ، فإن النياحة على الامام الحسين الشهيد كانت في مد وجزر ، منذ أن وطئت أقدام السبايا بالشام سنة 61 هـ ومثولها بين يدي يزيد ، فقد أخذت الأوساط الشامية وغيرها من المدن السورية واللبنانية منذ ذلك التاريخ تقيم المآتم والمناحات على فاجعة كربلاء في الدور وأماكن العبادة المخصصة لها بصورة علنية أو سرية حسب الظروف التي تفرضها السلطة القائمة والحكومة المسيطرة على الحكم من إطلاق الحرية للجاليات الشيعية أو الضغط عليها . ومن الملوك الذين تنفس الشيعة الصعداء على عهدهم في هذه البلاد الملوك الحمدانيون الذين كانوا على مذهب الشيعة ، والذين لهم مواقف مشهودة في خدمة هذا المذهب ، وخاصة على عهد الملك عبد الله بن حمدان ، الذي كان له السهم الأوفر في إقامة معالم هذا المذهب في المناطق التي كان يملكها أولئك الملوك الشيعة . ومما ساعد على انتشار مذهب الشيعة في هذه البلدان ، وخاصة في القرون التي أعقبت القرن الثالث الهجري ، قيام الحكم البويهي في العراق وإيران ، والحكم الفاطمي في مصر ، والحكومات التي أعقبت الحكم الحمداني في سورية ولبنان وما جاورهما ، كبني مروان وغيرهم من الأمراء ، وحتى حلول الحكم العثماني ، وكلما اشتد ساعد الشيعة في هذه البلاد كلما انتشرت شعائر إقامة العزاء الحسيني والنياحات عليه ، خاصة في بيروت ، ودمشق ، وحلب ، وصور ، وصيدا ، وطرابلس ، وبعلبك ، والنبطية ، وبنت جبيل وغيرها من القرى . أما على العهد العثماني فقد أخذ ضغط السلطات العثمانية يشتد على الشيعة في مدن سورية ولبنان الكبرى ، مما اضطر أفراد هذه الجالية إلى الانسحاب منها والهجرة الى الأقطار المجاورة أو الى القرى النائية في منطقة جبل عامل التي أصبحت بصورة تدريجية مقراً رئيسياً للشيعة في البلاد السورية واللبنانية ، وصاروا يقيمون فيها مراسيم العزاء الحسيني ومواكبه النياحية في شهري محرم وصفر وسائر أيام السنة . وفيما يلي نبذة مما عثر في بطون الكتب عن هذه النياحات على عهد عزة الشيعة في تلك الديار : 1ـ جاء في الصفحة «69» من كتاب « خطط جبل عامل » لعلامة الفقيد السيد محسن الأمين ، ما عبارته : « ويوجد في حلب مشهد ينسب الى الحسين عليه السلام وله أوقاف جمة يصرف ريعها على الإطعام يوم عاشوراء ، وهي باقية الى الآن ، لكن أهل حلب يصرفونه على الإطعام في ذلك اليوم بعنوان أنه يوم عيد لا يوم حزن . والظاهر أن هذه الأوقاف من الشيعة الذين كانوا بحلب ، أما المشهد فلا نعلم أصله ، وربما كان من زمن سيف الدولة » . 2ـ وجاء في الصفحة «149» من الكتاب نفسه ، ما لفظه : « حسينيات جبل عامل ـ جمع حسينية ـ وهي : بمثابة تكية منسوبة الى الامام الحسين السبط الشهيد ، لأنها تبنى لإقامة عزائه فيها ، وأصل الحسينيات من الايرانيين والهنود ، بنوها في بلادهم ، وبنوها في العراق ايضاً ، ووقفوا لها الأوقاف ، وجعلوا لكل منها ناظراً وقواماً . وهي : عبارة عن دار ذات حجر وصحن فيها منبر يأوي اليها الغريب ، وتقام فيها الجماعة ، وينزلها الفقراء ، ويقام فيها عزاء سيد الشهداء في كل أسبوع في يوم مخصوص وفي عشرة المحرم ، وتختلف حالتها في الكبر والصغر ، والاتقان وكثرة الريع ، باختلاف أحوال منشئيها ، وهذه لم تكن معروفة قبل عصرنا في جبل عامل ... » الخ . ويستطرد الكتاب فيقول : وأول حسينية أنشئت في جبل عامل ، هي « حسينية النبطية التحتا » ثم أنشئت عدة حسينيات في صور ، والنبطية الفوقا ، وكفر رمان ، وبنت جبيل ، وحاروف ، والخيام ، والطيبة ، وكفر صبر ، وغيرها .. » . الخ . وتجمع الشيعة في جبل عامل وقراه ساعد كثيراً بمرور الأيام على انتشار مجالس العزاء الحسيني وإقامة النياحات فيها ، إحياء هذه الذكرى المؤلمة على طول السنة ، وخاصة في شهري محرم وصفر ، وبالأخص العشرة الأولى من المحرم . 3 ـ ولا زالت شعائر إحياء هذه الذكريات الحزينة تقام في كثير من الأنحاء والمدن في سوريا ولبنان ، وخاصة الأخيرة منها ، وبالأخص المناطق التي تقيم فيها الجاليات الشيعية ، كجبل لبنان ، وبيروت ، ودمشق ، وتقام هذه المآتم عادة في العشرة الأولى من محرم ، وتتجلى بأسمى مظاهرها يوم عاشوراء ، الذي تقام فيها الاحتفالات الحزينة الشاملة وخاصة الحفلة التي تقيمها الجمعية الخيرية الاسلامية العاملية التي يحضرها كبار الشخصيات الرسمية والأهلية في لبنان ، وتلقى فيها الخطب التي يستعرض فيها الخطباء الحادث المؤلم في كربلاء وملابساته ، وما جرى فيه من ظلم وعسف على آل بيت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم . وفي سنة 1393 هـ ـ 1973 م ، قررت الحكومة اللبنانية جعل يوم عاشوراء ـ اي العاشر من محرم كل سنة ـ عطلة رسمية في جميع أنحاء لبنان ، تعطل فيها جميع الدوائر الرسمية ، والمؤسسات الأهلية ، والأسواق والأعمال . وهذه هي المرة الأولى في تاريخ لبنان تقدم فيه حكومة لبنان على جعل يوم عاشوراء الحسين يوم عطلة رسمية .. كما أفادت الأنباء أن سكان مدينة ( النبطية ) في لبنان التي يقيم الشيعة بصورة خاصة في محرم كل سنة فيها ذكرى مهيبة لمصرع الامام الحسين عليه السلام قد طبروا روؤسهم هذه السنة يوم عاشوراء ، وذلك ضمن شعائر الحزن الذي أقاموه ، والمواكب العزائية التي سيروها في ذلك اليوم الحزين ، وقدر عدد المطبرين (400) رجل . 4 ـ جاء في الصفحة «25» في كتاب « السيد محسن الأمين ، سيرته » السالف الذكر عند وصفه لدراسته الأولية في بنت جبيل سنة 1301 هـ ووصول الشيخ موسى شرارة اليها من النجف في تلك السنة قوله : « وأحيا ـ أي الشيخ موسى ـ إقامة العزاء لسيد الشهداء ورتب لذلك مجالس على طريقة العراق » . ثم يستطرد السيد الأمين في الصفحة «26» من الكتاب واصفاً المجالس العزائية التي تقام ليلاً في هذه المدينة اللبنانية لإحياء ذكرى استشهاد الحسين وذلك في العشرة الأولى من محرم كل سنة ويقول : « وفي اليوم العاشر منه تعطل الأعمال الى ما بعد الظهر ويقرأ مقتل أبي مخنف ثم تزار زيارة عاشوراء ثم يؤتى بالطعام الى المساجد ، وفي الغالب يكون من الهريسة ، فيأتي كل انسان بقدر استطاعته ، فيأكل منه الفقراء ، ويأكل منه قليلاً الأغنياء للبركة ، ويفرق منه على البيوت ، كل ذلك تقرباً الى الله ـ تعالى ـ عن روح الشهيد أبي عبد الله الحسين عليه السلام . أما القرى التي ليس فيها نسخة المجالس فيقتصر على قراءة المقتل يوم العاشر ويقرأ منه في ليلتين أو ثلاث قبل ليلة العاشر ، كل ليلة شيئاً ـ حتى يكون الباقي الى يوم العاشر خاصة بالمقتل وحده . وكانت المجلس التي أنشأها الشيخ موسى على ما فيها من عيوب أصلح بكثير مما تقدمها . وكانت مبدأ الإصلاح لمجالس العزاء الحسيني ... » الخ . لقد نقلت هذه النبذ عن الامام الثقة السيد محسن الأمين لتأكيد الدلالة على أن إقامة المأتم الحسيني ومراسمه والنياحة على الامام الحسين عليه السلام كانت مستمرة في دمشق ولم تنقطع منذ سنة «60 هـ» التي أتي بالسبايا اليها بعد قتل الحسين عليه السلام في كربلاء كما مر في صدر هذا البحث .

طباعة   البريد الإلكتروني