الشيعة في سوريا

(وقت القراءة: 3 - 6 دقائق)
خضعت بلاد الشام قبل الفتوحات الإسلاميّة لسيطرة امبراطوريّة الروم الشرقيّة وعاصمتها يومذاك « القسطنطينيّة »، ثمّ بلغت طلائع الفتح الإسلاميّ مدينة دمشق سنة 13 للهجرة، وانتشرت في سائر مناطق بلاد الشام. ويُطلق مصطلح « بلاد الشام » على الرقعة الجغرافيّة التي تضمّ دول سوريا، الأردن، لبنان وفلسطين الحاليّة. وبعد دخول المسلمين بلاد الشام، انطلقوا منها إلى شمال أفريقية. وقد تأثّر أهل الشام يومذاك بعقائد وسيرة بني أميّة، مُنذ أن عيّن عمر يزيد بن أبي سفيان والياً على الشام، وتبعه أخوه معاوية، فأضحى العداء لأمير المؤمنين عليه السّلام جزءاً من عقائدهم الدينيّة، ودام ذلك إلى فترة اضمحلال وسقوط الدولة الأمويّة. وأعقب العبّاسيون الأمويين في الحُكم، وكانوا قد كسبوا تأييد عامّة الناس من خلال شعاراتهم المُوهِمة التي رفعوها ودعوا الناس فيها إلى « الرضا من آل محمّد صلّى الله عليه وآله »، لكنّهم لمّا استتبّت لهم أمور الحكم تنكّروا لأهل البيت عليهم السّلام وحاربوهم وقتلوهم، واقتضت سياستهم عدم تصحيح الانحراف العقائدي الذي خلّفه أسلافهم الأمويّون في بلاد الشام. واستمر هذا الوضع إلى سنة 333 هـ، أي إلى عصر سيف الدولة الحمدانيّ، حيث بدأ التشيّع بالانتشار في بلاد الشام. ثمّ أقام الفاطميّون دولتهم في مصر، وخضعت لهم بلاد الشام أيضاً، فساعد ذلك في تهيئة الأرضيّة لانتشار التشيّع وموالاة أهل البيت عليهم السّلام. ويلزمنا أن نذكر بأنّ الدولة الأيّوبيّة قد بذلت كلّ ما في وسعها في قمع الشيعة واستئصالهم من بلاد الشام، وقد ذكر الخفاجيّ بأنّ مساعي الأيوبيّين في استئصال الشيعة وآثارهم طالت حتّى المكتبات والمخطوطات(273). وتبع العثمانيّون أسلافهم الأيّوبيّين في محاربة الشيعة ونصب العداء لهم، عداءً منهم للدولة الصفويّة، فآل أمر الشيعة في بلاد الشام إلى الضعف، بعد أن ازدهر التشيّع في الفترة الواقعة ما بين القرنَين الرابع والسابع، وتناقصت أعداد الشيعة في بلاد الشام ـ ومن ضمنها مدينة حلب ـ لكنّ الحضور الشيعيّ في هذه البلاد ظلّ مستمراً. الشيعة في دمشق أورد السيوطيّ أنّ جعفر بن فلاح حاكم دمشق من قِبل الفاطميّين أمر أن يؤذَّن في مساجد دمشق بجملة « حيّ على خير العمل »، وذكر أنّ الرفض ـ على حدّ تعبيره ـ انتشر في مصر، وفي شرق الشام وغربها، حتّى عُطِّلت صلاة التراويح(264)، والمعروف أنّ هذه الصلاة وُضعت من قِبل عمر، وأنّه قال عنها حين شاهد الناس يعملون بها: بِدعة ونعمت البدعة(265)! وذكر الذهبيّ أنّ أهل دمشق الذين كانوا من النواصب، قد أضحوا من الروافض في زمن الدولة الفاطميّة(266). وقد تحدّث الرحّالة المعروف ابن جبير ( ت 614 هـ ) عن تشيّع دمشق، ووصف زيارته لها في رحلته التي استمرت من سنة 578 هـ إلى سنة 581 هـ، وتحدّث على الخصوص عن مشاهد أهل البيت عليهم السّلام والأوقاف التي خصّص الشيعة عائداتها لتأمين مستلزمات تلك المشاهد الشريفة، وصرّح بأنّ الشيعة في بلاد الشام أكثر من أهل السنّة(277). الشيعة في حمص ومن مدن الشام المشهورة مدينة حِمص، وقد انتشر التشيّع في هذه المدينة في القرن الرابع الهجريّ على يد الدولة الحمدانيّة، وذكر المقريزيّ بأنّ أهل حمص كانوا يؤذّنون في سنة 347 هـ بجملة « حَيّ على خير العمل »(268)، وذكر الذهبيّ بأنهم كانوا يؤذنون بها أيضاً في مطلع القرن الخامس الهجريّ، وأنّ والي دمشق كان يومذاك من الشيعة(269). وورد أنّ أهل حمص هدّدوا ياقوت الحمويّ (صاحب مُعجم البلدان) وكان مُتّهماً بالنصَّب(270)، ففرّ من مدينتهم، وقال في كتابه بأنّ أهل حمص الذين اشتهروا بالنصب قد غدوا اليوم من غُلاة الشيعة(271). ويجدر بالذكر أنّ التواجد الشيعيّ في مدينة حمص كان له جذوره وتاريخه، وأنّ الشيعة وُجِدوا في حمص حتّى قبل مجيء الدولة الحمدانيّة، وقد اشتهر من هؤلاء الشيعة رجال، من بينهم الشاعر الشيعيّ المعروف ديك الجنّ ( ت 235 هـ )(272). ومن بين علماء الشيعة: أحمد بن علي بن معقل الحمصيّ ( ت 662 هـ ) ويعدّ وجود مثل هذا العالم المعروف من الأدلّة على التواجد الشيعيّ في مدينة حمص خلال القرن السابع الهجريّ. الشيعة في معرة النعمان وتطرّق ابن بطوطة ـ الذي عاش في القرن الثامن الهجريّ ـ إلى ذكر مدينة معرّة التي يُنسب إليها أبو العلاء المعرّيّ، وقال بأنّ طائفة من الرافضة يقطنون فيها(281). وكان للشيعة تواجدٌ ملحوظ في مدينة دمشق خلال القرن العاشر الهجريّ، حيث ذكر القاضي نور الله أنّ المسافرين الشيعة الذين يقصدون بيت الله الحرام لأداء فريضة الحجّ، كانوا إذا مرّوا على بلاد الشام حَطّوا رحالهم في محلّة خراب ـ من محلاّت الشام ـ نظراً لكَون أهل تلك المحلّة قاطبة من المؤمنين ذوي الاعتقاد الخالص(282). الشيعة في حلب ومن المدن السوريّة المهمّة مدينة حلب، وللتشيّع فيها عراقة وتاريخ قديم، وكان لها دور مهمّ في نشر التشيّع في مناطق سورية المختلفة. ومدينة حلب من المدن التي شاركت في صياغة الوقائع السياسيّة خلال التاريخ الإسلاميّ، وأضحت ـ لمرّات ـ مركزاً للحكم. ويبدأ تاريخ التشيع في حلب مع ظهور الدولة الحمدانيّة الشيعيّة، على الرغم من أنه يُحتمل قويّاً أن جذور التشيّع امتدّت إلى ما قبل الدولة الحمدانيّة أيضاً(283). وقد بدأت دولة آل حمدان في شمال سورية سنة 333 هـ، حيث دخل سيف الدولة الحمدانيّ مدينة حلب فجعلها مركزاً لحكمه الذي امتدّ إلى أوائل القرن الخامس الهجريّ، أي إلى سنة 406 هـ التي سيطرت فيها الدولة الفاطميّة على دمشق، ثمّ سيطر بنو مرداس على مدينة حلب سنة 414هـ فأنهوا بذلك حكم بني حمدان(284). وكان للدولة الحمدانيّة الدور الكبير في ازدهار الثقافة الإسلاميّة في حلب، من خلال نبذهم للتعصّب المذهبيّ وتشجيعهم للعلم والفِكر ـ وبخاصّة من قبل سيف الدولة ـ وللتضحيات والمواقف المشرّفة التي كانت للحمدانيّين في تصدّيهم للروم. أمّا دول بني مرداس ( 414 ـ 472 هـ ) التي سيطرت في القرن الخامس على مناطق مهمّة في بلاد الشام، فقد كانت روّجت لمذهب التشيّع إلى حدٍّ ما بحيث نقل ابن بغلان المتطبب بأنّ الفقهاء في حلب كانوا يُفتون وفق مذهب الإماميّة(285). ومن أشهر فقهاء حلب الشيعة: سالار الديلميّ وأبو الصلاح الحلبيّ مؤلف « تقريب المعارف » و« الكافي في الفقه ». وأنشد المولى الروميّ ( عاش في القرن السابع الهجريّ ) في أهل حلب ( ما تعريبه ): اجتمع أهل حلب يوم عاشوراء بأجمعهم عند باب أنطاكية إلى الليل، اجتمعوا نساءً ورجالاً، ليُقيموا مأتم أهل البيت يوم عاشوراء. فالشيعة يئنون وينوحون ويذرفون الدموع سِخاناً لأجل مصاب كربلاء(286). وبعد مجيّ الدولة الأيّوبيّة ونتيجةً للعداء الذي كان صلاح الدين الأيّوبيّ يكنّه للشيعة، فقد اضطُرّ الشيعة في تلك الديار إلى التستّر والعمل بالتقيّة؛ حفظاً على أرواحهم وحقناً لدمائهم، فانحسر ازدهار التشيّع نتيجة لذلك(287). وعلى الرغم من هذا كلّه، فقد بقيت مدينة حلب مركزاً تخرّج منه عدد كبير من علماء الشيعة، منهم مؤلف كتاب « حلب والتشيّع »(288)، ولا يزال الشيعة في عصرنا الحاضر يسكنون في بعض أطراف مدينة حلب. الوضع الحالي أمّا في سورية حاليا، فإنّ عدد الشيعة وفقاً للأرقام الرسميّة المعلنة في حدود خمسين ألف نفر، وهذا الرقم لا يشمل ـ بطبيعة الحال ـ العلويّين الحاكمين في سورية حاليّاً.

طباعة   البريد الإلكتروني