المعتزلة بین المدارس الکلامیّة المختلفة

(وقت القراءة: 15 - 30 دقائق)

المعتزلة بین المدارس الکلامیّة المختلفة؛ مدرسة فکریّة عقلیّة أعطت للعقل القسط الأوفر، ومن المؤسف أنّ هوى العصبیة، بل ید الخیانة، لعبت بکثیر من مخلّفاتهم الفکریّة، فأطاحت به فأضاعتها بالخرق والتمزیق، فلم یبق فیما بأیدینا من آثارهم إلاّ الشیء القلیل، وأکثرها یرجع إلى کتب عبد الجبار المعتزلی (المتوفّى عام 415هـ)، ولأجل ذلک فقد اعتمد فی تحریر هذا المذهب غیر واحد من الباحثین على کتب خصومهم کالأشاعرة، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على کتاب الخصم لا یُورث یقیناً.
وقد اهتمّ المستشرقون فی العصور الأخیرة بدراسة مذهب الاعتزال، ولقد أُعجبوا بمنهج الاعتزال فی حرّیة الإنسان وأفعاله، وصار ذلک سبباً لرجوع المعتزلة إلى الساحة من قبل المفکّرین الإسلامیّین، ولذلک نُشرت فی هذه الآونة الأخیرة کتباً حول المعتزلة.
ومؤسّس المذهب هو واصل بن عطاء تلمیذ الحسن البصری، نقل الشهرستانی أنّه دخل شخص على الحسن البصری، فقال: یا إمام الدین!، لقد ظهرت فی زماننا جماعة یکفّرون أصحاب الکبائر، والکبیرة عندهم تُخرج به
_____________________________________ [الصفحة 93] _____________________________________
عن الملّة، وهم وعیدیّة الخوارج، وجماعة یُرجئون أصحاب الکبائر، ویقولون لا تضر مع الإیمان معصیة، کما لا تنفع مع الکفر طاعة، وهم مرجئة الأُمّة، فکیف تحکم لنا فی ذلک اعتقاداً؟
فتفکّر الحسن فی ذلک، وقبل أن یجیب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الکبیرة مؤمن مطلقاً، ولا کافر مطلقاً، بل هو فی منزلة بین المنزلتین، لا مؤمن ولا کافر، ثُمّ قام واعتزل إلى اسطوانة المسجد؛ یقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّی هو وأصحابه: معتزلة.(1)
سائر ألقاب المعتزلة:
إنّ للمعتزلة ألقاباً أُخر:
1 ـ العدلیّة: لقولهم بعدل الله سبحانه وحکمته.
2 ـ الموحّدة: لقولهم لا قدیم مع الله، وینفون قدم القرآن.
3 ـ أهل الحق: لأنّهم یعتبرون أنفسهم أهل الحق.
4 ـ القدریّة: یُعبَّر عن المعتزلة فی الکتب الکلامیّة بالقدریّة، والمعتزلة یطلقونها على خصومهم، وذلک لما رُوی عن النبیّ (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم): ((أنّ القدریّة مجوس هذه الأُمّة)). فلو قلنا بأنّ القدریّة منسوبة إلى القدر؛ عِدْل القضاء، فتنطبق على
ـــــــــــــــــــ
(1) الملل والنحل: 1/62.
_____________________________________ [الصفحة 94] _____________________________________
خُصَماء المعتزلة؛ القائلین بالقدر السالب للاختیار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة؛ أی القائلین بتأثیر قدرة الإنسان فی فعله واختیاره وتمکّنه فی إیجاده، فتنطبق ـ على زعم الخُصَماء ـ على المعتزلة؛ لقولهم بتأثیر قدرة الإنسان فی فعله. وقد طال الکلام بین المتکلّمین فی تفسیر الحدیث وذِکْر کلِّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها.(1)
5 ـ الثنویّة: ولعلّ وجهه ما یتراءى من بعضهم من نسبة الخیر إلى الله والشر إلى العبد.
6 ـ الوعیدیة: لقولهم إنّ الله صادق فی وعده، کما هو صادق فی وعیده، وإنّه لا یغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة، فلو مات بدونها یکون معذّباً قطعاً ویخلَّد فی النار.
7 ـ المعطّلة: لتعطیل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتیة، ولکن هذا اللقب أُلصق بالجهمیّة، وأمّا المعتزلة فلهم فی الصفات مذهبان:
أ ـ القول بالنیابة، أی خلو الذات عن الصفات، ولکن تنوب الذّات مکان الصفات فی الآثار المطلوبة منها، وقد اشتهر قولهم: (خُذ الغایات واترک المبادئ)، وهذا مخالف لکتاب الله والسنّة والعقل. فإنّ النقل یدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الکمالیّة، وأمّا العقل، فحدِّث عنه ولا حرج؛ لأنّ الکمال یساوق الوجود، وکلّما کان الوجود أعلى وأشرف، تکون الکمالات فیه آکد.
ـــــــــــــــــ
(1) کشف المراد: 195، شرح المقاصد للتفتازانی: 2/143.
_____________________________________ [الصفحة 95] _____________________________________
ب ـ عینیّة الصفات مع الذّات واشتمالها على حقائقها، من دون أن یکون ذات وصفة، بل الذّات بلغت فی الکمال إلى درجة صار نفس العلم قدرة.
8 ـ الجهمیّة، وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم، فکل ما یقول: قالت الجهمیّة، أو یصف القائل بأنّه جهمیّ؛ یُرید به المعتزلة، لِمَا وجد من موافقتهم الجهمیّة فی بعض المسائل.
9 ـ المفنیة.
10 ـ اللّفظیّة.
وهذان اللّقبان ذکرهما المقریزی وقال: إنّهم یوصفون بالمفنیة، لما نسب إلى أبی الهذیل من فناء حرکات أهل الجنة والنار؛ واللفظیة لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة.(1)
الأُصول الخمسة عند المعتزلة:
اشتهرت المعتزلة بأُصول خمسة، فمن دان بها فهو معتزلی، ومن نقص منها أو زاد علیها فلیس منهم، وتلک الأُصول المرتبة حسب أهمیتها عبارة عن: التوحید، العدل، الوعد والوعید، المنزلة بین المنزلتین، الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.
فمن دان بها، ثُمَّ خالف بقیة المعتزلة فی تفاصیلها، لم یخرج بذلک عنهم.
وإلیک تفصیل هذه الأُصول بنحو موجز:
ـــــــــــــــــ
(1) الخطط المقریزیّة: 4/169.
_____________________________________ [الصفحة 96] _____________________________________
إیعاز إلى الأُصول الخمسة
وقبل کلّ شیء نطرح هذه الأُصول على وجه الإجمال، حتّى یُعلم ماذا یرید منها المعتزلة، ثُمَّ نأخذ بشرحها واحداً بعد احد؛ فنقول:
1 ـ التوحید: ویراد منه العلم بأنّ الله واحد، لا یشارکه غیره فیما یستحقُّ من الصفات نفیاً وإثباتاً على الحدّ الّذی یستحقّه. والتوحید عندهم رمز لتنزیهه سبحانه عن شوائب الإمکان ووهم المثلیّة وغیرهما ممّا یجب تنزیه ساحته عنه، کالتجسیم والتشبیه وإمکان الرؤیة وطروء الحوادث علیه. غیر أنّ المهمّ فی هذا الأصل؛ هو الوقوف على کیفیّة جریان صفاته علیه سبحانه، ونفی الرؤیة، وغیرهما یقع فی الدّرجة الثانیة من الأهمیة فی هذا الأصل؛ لأنّ کثیراً منها لم یختلف المسلمون فیه، إلاّ القلیل منهم.
2 ـ العدل: إذا قیل إنّه تعالى عادل، فالمراد أنّ أفعاله کلّها حسنة، وأنّه لا یفعل القبیح، وأنّه لا یَخِلّ بما هو واجب علیه. وعلى ضوء هذا: لا یکذب فی خبره، ولا یجور فی حکمه، ولا یعذِّب أطفال المشرکین بذنوب آبائهم، ولا یُظهر المعجزة على أیدی الکذّابین، ولا یکلِّف العباد وما لا یطیقون، وما لا یعلمون، بل یُقْدِرهم على ما کلّفهم، ویعلِّمهم صفة ما کلّفهم، ویدلّهم على ذلک، ویبیّن لهم (لِیَهْلِکَ مَنْ هَلَکَ عَن بَیّنَةٍ وَیَحْیَى مَنْ حَیّ عَنْ بَیّنَةٍ)(1)، وأنّه إذا کلّف المکلّف وأتى بما کلّف على الوجه الّذی کُلِّف، فإنّه یثیبه لا محالة، وأنّه سبحانه إذا آلم وأسقم، فإنّما فعله لصلاحه ومنافعه، وإلاّ کان مخلاًّ بواجب...
3 ـ الوعد والوعید: والمراد منه أنّ الله وعد المطیعین بالثواب، وتوعّد
ـــــــــــــــ
(1) الأنفال: 42.
_____________________________________ [الصفحة 97] _____________________________________
العصاة بالعقاب، وأنّه یفعل ما وعد به وتوعّد علیه لا محالة. ولا یجوز الخُلف، لأنّه یستلزم الکذب. فإذا أخبر عن الفعل، ثُمَّ ترکه، یکون کذباً. ولو أخبر عن العزم، فبما أنّه محال علیه، کان معناه الإخبار عن نفس الفعل، فیکون الخُلف کذباً. وعلى ضوء هذا الأصل، حکموا بتخلید مرتکب الکبائر فی النار؛ إذا مات بلا توبة.
4 ـ المنزلة بین المنزلتین: وتلقّب بمسألة الأسماء والأحکام؛ وهی أنّ صاحب الکبیرة لیس بکافر کما علیه الخوارج، ولا منافق کما علیه الحسن البصری، ولا مؤمن کما علیه بعضهم، بل فاسق لا یحکم علیه بالکفر ولا بالإیمان.
5 ـ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر: والمعروف: کلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ علیه، والمنکر: کلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ علیه. ولا خلاف بین المسلمین فی وجوبهما؛ إنّما الخلاف فی أنّه هل یُعلم عقلاً أو لا یُعلم إلاّ سمعاً؟، ذهب أبو علیّ (المتوفّى 303هـ) إلى أنّه یُعلم عقلاً وسمعاً، وأبو هاشم (المتوفّى 321هـ) إلى أنّه یُعلم سمعاً، ولوجوبه شروط تُذکر فی محلّها، ومنها أن لا یؤدّی إلى مضرّة فی ماله أو نفسه، إلاّ أن یکون فی تحمّله لتلک المذلّة إعزاز للدّین.
قال القاضی: وعلى هذا یحمل ما کان من الحسین بن علیّ (علیهما السّلام)؛ لِمَا کان فی صبره على ما صبر، إعزاز لدین الله عزّ وجلّ، ولهذا نباهی به سائر الأُمم، فنقول: لم یبق من ولْد الرّسول (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم) إلاّ سبط واحد، فلم یترک الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر حتّى قتل دون ذلک.(1)
ــــــــــــــــ
(1) الأُصول الخمسة: 142، نقلاً عن، بحوث فی الملل والنحل: 3/254 ـ 255.
_____________________________________ [الصفحة 98] _____________________________________
سبب الاقتصار على هذه الأُصول الخمسة:
هناک سؤال یطرح نفسه، وهو:
لماذا اقتصروا على هذه الأُصول، مع أنّ أمر النبوّة والمعاد أولى بأن یُعدَّ من الأُصول؟
وقد ذکروا فی وجه ذلک أُموراً لا یُعتمد علیها، والحق أن یقال: إنّ الأُصول الخمسة الّتی یتبنّاها المعتزلة، مؤلّفة من أُمور تعدُّ من أُصول الدین کالتوحید والعدل على وجه، ومن أُصول کلامیّة أنتجوها من البحث والنقاش، وأقحموها فی الأُصول لغایة ردِّ الفرق المخالفة؛ الّتی لا توافقهم فی هذه المسائل الکلامیة.
وعند ذلک یستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الأُصول، وجعلته فی صدر آرائها، لیست إلاّ آراء کلامیّة لهذه الفرقة، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإمامیّة وغیرهم من الفرق، على نحو لو لا تلکم الفِرَق لما سمعت من هذه الأُصول ذکراً.
أئمة المعتزلة:
المراد بأئمتهم؛ مشایخهم الکبار؛ الّذین نضج المذهب بأفکارهم وآرائهم، ووصل إلى القمة فی الکمال.
نعم، فی مقابل أئمة المذهب، أعلامهم الّذین کان لهم دور فی تبیین هذا المنهج من دون أن یترکوا أثراً یستحق الذکر فی الأُصول الخمسة، وها نحن نذکر من الطائفیتن نماذج:
_____________________________________ [الصفحة 99] _____________________________________
1. واصل بن عطاء (80 ـ 131هـ):
أبو حذیفة واصل بن عطاء، مؤسّس الاعتزال، المعروف بالغزّال، یقول ابن خلّکان: کان واصل أحد الأعاجیب، وذلک أنّه کان ألثغ، قبیح اللثغة فی الرّاء، فکان یُخلِّص کلامه من الرّاء ولا یُفطن لذلک، لاقتداره على الکلام وسهولة ألفاظه، ففی ذلک یقول أبو الطروق؛ یمدحه بإطالة الخطب واجتنابه الراء على کثرة تردّدها فی الکلام، حتّى کأنّها لیست فیه.
علیم بإبدال الحروف وقامع = لکلّ خطیب یغلب الحقَّ باطلُه
وقال الآخر:
ویجعل البرّ قمحاً فی تصرّفه = وخالف الرّاء حتّى احتال للشعر
ولم یطق مطراً والقول یعجله = فعاذ بالغیث اشفاقاً من المطر
من آرائه ومصنّفاته:
إنّ واصل هو أوّل من أظهر المنزلة بین المنزلتین؛ لأنّ الناس کانوا فی أسماء أهل الکبائر من أهل الصلاة على أقوال: کانت الخوارج تسمّیهم بالکفر والشرک، والمرجئة تسمّیهم بالإیمان، وکان الحسن وأصحابه یسمّونهم بالنفاق.
مؤلّفاته:
ذکر ابن الندیم فی (الفهرست)، وتبعه ابن خلّکان: إنّ لواصل التصانیف التالیة:
_____________________________________ [الصفحة 100] _____________________________________
1 ـ کتاب أصناف المرجئة.
2 ـ کتاب التوبة.
3 ـ کتاب المنزلة المنزلتین.
4 ـ کتاب خطبه الّتی أخرج منها الرّاء.
5 ـ کتاب معانی القرآن.
6 ـ کتاب الخُطب فی التوحید والعدل.
ومن المحتمل أنّه قام بجمع خطب الإمام علیّ (علیه السّلام) فی التوحید والعدل فأفرده تألیفاً.
7 ـ کتاب ما جرى بینه وبین عمرو بن عبید.
8 ـ کتاب السبیل إلى معرفة الحق.
9 ـ کتاب فی الدعوة.
10 ـ کتاب طبقات أهل العلم والجهل.(1)
2. عمرو بن عبید (80 ـ 143هـ):
وهو الإمام الثانی للمعتزلة بعد واصل بن عطاء، وکان من أعضاء حلقة الحسن البصری، مثل واصل، لکن التحق به بعد مناظرة جرت بینهما فی مرتکب الکبیرة.
روى ابن المرتضى، عن الجاحظ، أنّه قال: صلَّى عمرو أربعین عاماً صلاة
ـــــــــــــــ
(1) فهرست ابن الندیم: 203، الفن الأوّل من المقالة الخامسة.
_____________________________________ [الصفحة 101] _____________________________________
الفجر بوضوء المغرب. وحجّ أربعین حجّة ماشیاً، وبعیره موقوف على من أحصر، وکان یحیی اللّیل برکعة واحدة، ویرجّع آیة واحدة.
وقد روى نظیره فی حق الشیخ أبی الحسن الأشعری، وقد قلنا: إنّه من المغالاة فی الفضائل، إذ قلّما یتّفق لإنسان ألاّ یکون مریضاً ولا مسافراً ولا معذوراً طیلة أربعین سنة، حتّى یصلّی فیها صلاة الصبح بوضوء العتمة.
مناظرة هشام مع عمرو بن عبید:
روى السیّد المرتضى فی أمالیه، وقال: إنّ هشام بن الحکم قدم البصرة، فأتى حلقة عمرو بن عبید، فجلس فیها وعمرو لا یعرفه، فقال لعمرو: ألیس قد جعل الله لک عینین؟، قال: بلى، قال: ولِمَ؟، قال: لأنظر بهما فی ملکوت السماوات والأرض فأعتبر، قال: وجعل لک فماً؟، قال: نعم، قال: ولِمَ؟، قال: لأذوق الطعوم وأُجیب الداعی، ثُمَّ عدّد علیه الحواس کلّها.
ثُمَّ قال: وجعل لک قلباً؟، قال: نعم، قال: ولِمَ؟
قال: لتؤدّی إلیه الحواس ما أدرکته، فیمیّز بینها.
قال: فأنت لم یرض لک ربُّک تعالى إذ خلق لک خمس حواس حتّى جعل لها إماماً ترجع إلیه، أترضى لهذا الخلق الّذین جشأ بهم العالم ألاّ یجعل لهم إماماً یرجعون إلیه؟، فقال له عمرو: ارتفع حتّى ننظر فی مسألتک، وعَرِفه. ثُمَّ دار هشام فی حلق البصرة، فما أمسى حتّى اختلفوا.(1)
ــــــــــــــــــ
(1) أمالی المرتضى: 1/176 ـ 177.
_____________________________________ [الصفحة 102] _____________________________________
أقول: ما أجاب به عمرو بن عبید هشام بن الحکم، یدلّ على دماثة فی الخُلق وسماحة فی المناظرة، مع أنّه طعن فی السنّ، وهشام بن الحکم کان یُعدّ فی ذلک الیوم من الأحداث، وقد استمهل حتّى یتأمّل فی مسألته، ولم یرفع علیه صوته وعقیرته بالشتم والسَّب، کما هو عادة أکثر المتعصِّبین، ولم یرمه بالخروج عن المذهب.
وأخیراً روى السیّد المرتضى أنّ أبا جعفر المنصور مرَّ على قبر عمرو بن عبید بمرّان ـ وهو موضع على لیال من مکّة على طریق البصرة ـ، فأنشأ یقول:
صلى الإله علیک من متوسّد = قبراً مررت به على مرّان
قبراً تضمّن مؤمناً متخشعا ً= عَبَدَ الإله ودان بالفرقان
وإذا الرجال تنازعوا فی شبهة = فصل الخطاب بحکمة وبیان
فلو أنّ هذا الدهر أبقى صالحاً = أبقى لنا عُمْراً أبا عثمان(1)
وفود عمرو على الإمام الباقر(علیه السّلام)
رُوی أنّ عمرو بن عبید وفد على محمّد بن علیّ الباقر (علیه السّلام)؛ لامتحانه بالسؤال عن بعض الآیات، فقال له: جعلت فداک، ما معنى قوله تعالى: (أَوَلَمْ یَرَ الّذِینَ کَفَرُوا أَنّ السّماوَاتِ وَالْأَرْضَ کَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا)(2)، ما هذا الرتق والفتق؟
فقال أبو جعفر (علیه السّلام): ((کانت السماء رتقاً لا یُنْزل القطر، وکانت الأرض رتقاً
ــــــــــــــ
(1) أمالی المرتضى: 1/178؛ وفیّات الأعیان: 2/462.
(2) الأنبیاء: 30.
_____________________________________ [الصفحة 103] _____________________________________
لا تُخْرج النبات، ففتق الله السماء بالقطر، وفتق الأرض بالنبات)).
فانطلق عمرو ولم یجد اعتراضاً، ومضى.
3. أبو الهذیل العلاّف (135 ـ 235هـ):
إنّ أبا الهذیل محمد بن الهذیل العبدی، المنسوب إلى عبد القیس، الملقَّب بالعلاّف؛ لنزوله العلاّفین فی البصرة، أحد أئمة المعتزلة، وقد وصفه ابن الندیم؛ وقال: کان شیخ البصریِّین فی الاعتزال، ومن أکبر علمائهم، وهو صاحب المقالات فی مذهبهم، وصاحب مجالس ومناظرات.
نقل ابن المرتضى، عن صاحب المصابیح، أنّه کان نسیج وحده وعالم دهره، ولم یتقدّمه أحد من الموافقین ولا من المخالفین. کان إبراهیم النظّام من أصحابه، ثُمَّ انقطع عنه مُدَّة، ونظر فی شیء من کتب الفلاسفة، فلمّا ورد البصرة کان یرى أنّه قد أورد من لطیف الکلام ما لم یسبق إلى أبی الهذیل. قال إبراهیم: فناظرت أبا الهذیل فی ذلک، فخیّل إلیَّ أنّه لم یکن متشاغلاً إلاّ به؛ لتصرّفه فیه، وحذقه فی المناظرة فیه.(1)
قال القاضی: ومناظراته مع المجوس والثنویة وغیرهم طویلة ممدودة، وکان یقطع الخصم بأقلّ کلام، یقال أنّه أسلم على یده زیادة على 3000 رجل.
قال المبرّد: ما رأیت أفصح من أبی الهذیل والجاحظ، وکان أبو الهذیل أحسن مناظرة. شهدتُه فی مجلس، وقد استشهد فی جملة کلامه بثلاثمائة بیت...، وفی مجلس المأمون استشهد فی عرض کلامه بسبعمائة بیت.(2)
ـــــــــــــــ
(1) فهرست ابن الندیم: 225 ـ 226.
(2) المنیة والأمل: 26 ـ 27.
_____________________________________ [الصفحة 104] _____________________________________
تآلیفه:
حکى ابن المرتضى، عن یحیى بن بشر، أنّ لأبی الهذیل ستین کتاباً فی الرّدِّ على المخالفین فی دقیق الکلام.(1)
وذکر ابن الندیم فی باب الکتب المؤلّفة فی متشابه القرآن، أنّ لأبی الهذیل العلاّف کتاباً فی ذلک الفن.(2)
وقال ابن خلّکان: ولأبی الهذیل کتاب یعرف بالمیلاس، وکان میلاس رجلاً مجوسیَّاً وأسلم، وکان سبب إسلامه؛ أنّه جمع بین أبی الهذیل وبین جماعة من الثنویة، فقطعهم أبو الهذیل، فأسلم میلاس عند ذلک.(3)
وذکر البغدادی کتابین لأبی الهذیل؛ هما: (الحجج)، و(القوالب)، والثانی ردٌّ على الدّهریّة.(4)
4. النظّام (160 ـ 231هـ):
إبراهیم بن سیّار بن هانئ النظّام، هو الشّخصیّة الثالثة للمعتزلة، ومن متخرّجی مدرسة البصرة للاعتزال.
قال الشریف المرتضى: کان مقدّماً فی علم الکلام، حسن الخاطر، شدید
ــــــــــــــــــ
(1) المنیة والأمل: 25.
(2) الفهرست، ابن الندیم: 39، الفن الثالث من المقالة الأُولى.
(3) وفیّات الأعیان: 4/266.
(4) الفَرق بین الفِرق: 124.
_____________________________________ [الصفحة 105] _____________________________________
التدقیق والغوص على المعانی، وإنّما أدّاه إلى المذاهب الباطلة الّتی تفرّد بها واستشنعت منه، تدقیقه وتغلغله، وقیل: إنّه مولى الزیادیین من ولْد العبید، وأنّ الرّق جرى على أحد آبائه.(1)
وذکره القاضی عبد الجبار فی طبقات المعتزلة، وقال: إنّه من أصحاب أبی الهذیل، وخالفه فی أشیاء.(2)
رُوی أنّه کان لا یکتب ولا یقرأ، وقد حفظ القرآن والتوراة والإنجیل والزبور وتفسیرها، مع کثرة حفظه الأشعار والأخبار واختلاف النّاس فی الفُتْیا.(3)
وقال الجاحظ: الأوائل یقولون: فی کلِّ ألف سنة رجل لا نظیر له، فإن کان ذلک صحیحاً، فهو أبو إسحاق النظّام.(4)
وقد تعرّض لهجوم الأشاعرة، وردود بعض المعتزلة، ممّا یُعرب عن شذوذ فی منهجه، وانحراف فی فکره.
النظّام ومذهب الصِرْفَة فی إعجاز القرآن:
من الآراء الباطلة الّتی نسبت إلى النظّام، هو حصر إعجاز القرآن فی الإخبار عن المغیّبات، وأمّا التألیف والنظم، فقد کان یجوّز أن یقدر علیه العباد، لولا أنّ الله منعهم بمنع. وقد نقل عنه البغدادی فی (الفَرق)؛ بقوله: إنّه أنکر إعجاز القرآن فی نظمه.(5)
ــــــــــــــــــ
(1) أمالی المرتضى: 1/187.
(2) فضِّ الاعتزال وطبقات المعتزلة: 264.
(3) المنیة والأمل: 29.
(4) المنیة والأمل: 29.
(5) الفَرق بین الفِرق: 132.
_____________________________________ [الصفحة 106] _____________________________________
وقال الشهرستانی: قوله فی إعجاز القرآن: إنّه من حیث الإخبار عن الأُمور الماضیة والآتیة، ومن جهة صرف الدواعی عن المعارضة، ومنع العرب عن الاهتمام به جبراً وتعجیزاً، حتّى لو خلاّهم، لکانوا قادرین على أن یأتوا بسورة من مثله؛ بلاغة وفصاحة ونظماً.(1)
أقول: لا شکَّ أنّ مذهب الصِرْفة فی إعجاز القرآن مذهب مردود بنص القرآن وإجماع الأُمّة، لأنّ مذهب الصِرفة یرجع إلى أنّ القرآن لم یبلغ فی مجال الفصاحة والبلاغة حدّ الإعجاز؛ حتّى لا یتمکّن الإنسان العادی من مباراته ومقابلته، بل هو فی هذه الجهة لا یختلف عن کلام الفصحاء والبلغاء، ولکنّه سبحانه یحول بینهم وبین الإتیان بمثله، إمّا بصرف دواعیهم عن المعارضة، أو بسلب قدرتهم عند المقابلة.
ومن المعلوم أنّ تفسیر اعجاز القرآن بمثل هذا، باطل للغایة، لأنّ القرآن عند المسلمین مُعْجِز بکونه خارقاً للعادة؛ لِمَا فیه من ضروب الإعجاز فی الجوانب الأربعة:
1 ـ الفصاحة القصوى.
2 ـ البلاغة العلیا.
3 ـ النظم المهذَّب.
4 ـ الأسلوب البدیع.
فقد تجاوز عن حدّ الکلام البشری، ووصل إلى حدّ لا تَکْفی فی الإتیان بمثله القدرة البشریة.
ـــــــــــــــ
(1) الملل والنحل: 1/56 ـ 57.
_____________________________________ [الصفحة 107] _____________________________________
مؤلّفاته:
مع أنّه کَثُر اللَّغط حول آراء النظّام، إلاّ أنّ طبیعة الحال تقتضی، أن یکون له تصانیف عدیدة، غیر أنّه لم یصل من أسماء مؤلّفاته إلاّ نزراً یسیراً:
1 ـ التوحید.
2 ـ العالم(1).
3 ـ الجزء(2).
4 ـ کتاب الرّدُّ على الثنویة.(3)
5. أبو علی الجبائی (235 ـ 303هـ):
إنّ أبا علی محمد بن عبد الوهاب الجبّائی أحد أئمة المعتزلة فی عصره، وهو من بلدة جبّاء بلد أو کورة من خوزستان، یعرّفه ابن الندیم فی فهرسته، یقول: وهو من معتزلة البصرة، ذلّل الکلام وسهّله، ویسّر ما صعب منه، وإلیه انتهت رئاسة البصریّین، لا یدافع فی ذلک. وأخذ عن أبی یعقوب الشّحّام. وَرَد البصرة وتکلّم مع من بها من المتکلّمین، وصار إلى بغداد، فحضر مجلس أبی... الضریر، وتکلّم، فتبین فضله وعلمه، وعاد إلى العسکر.(4)
وقال ابن خلّکان: إنّه أحد أئمة المعتزلة، کان إماماً فی علم الکلام، وأخذ
ــــــــــــــــ
(1) ذکرهما أبو الحسین الخیَّاط فی الانتصار: 14 و172.
(2) مقالات الإسلامیّین: 2/316.
(3) الفَرق بین الفِرق: 134.
(4) فهرست ابن الندیم: 217 ـ 218.
_____________________________________ [الصفحة 108] _____________________________________
هذا العلم عن أبی یوسف یعقوب بن عبد الله الشحّام البصری؛ رئیس المعتزلة بالبصرة فی عصره. له فی مذهب الاعتزال مقالات مشهورة، وعنه أخذ الشیخ أبو الحسن الأشعری علم الکلام، وله معه مناظرة روتها العلماء.
تألیفاته:
یظهر ممّا نقله ابن المرتضى أنّه غزیر الإنتاج، قال: قال أبو الحسین: وکان أصحابنا یقولون: إنّهم حرَّروا ما أملاه أبو علیّ، فوجدوه مائة ألف وخمسین ألف ورقة، قال: وما رأیته ینظر فی کتاب، إلاّ یوماً نظر فی زیج الخوارزمی. ورأیته یوماً أخذ بیده جزءاً من الجامع الکبیر، لمحمد بن الحسن، وکان یقول: إنّ الکلام أسهل شیءٍ؛ لأنّ العقل یدلّ علیه.(1)
لمحة من أحواله:
روى ابن المرتضى وقال: قال أبو الحسن: وکان من أحسن الناس وجهاً وتواضعاً ـ إلى أن قال: وکان إذا روى عن النبیّ (صلَّى الله علیه وآله وسلَّم) أنّه قال لعلی والحسن والحسین وفاطمة: ((أنا حرب لمن حاربکم، وسلم لمن سالمکم))، یقول: العجب من هؤلاء النوابت(2)، یروون هذا الحدیث، ثُمَّ یقولون بمعاویة.(3)
وروى عن علیّ (علیه السّلام)، أنّ رجلین أتیاه، فقالا: ائذن لنا أن نصیر إلى معاویة،
ـــــــــــــ
(1) المنیة والأمل: 47.
(2) النوابت تُطلق على الحشویّة ومن لفّ لفّهم.
(3) المنیة والأمل: 47.
_____________________________________ [الصفحة 109] _____________________________________
فنستحلّه من دماء من قتلنا من أصحابه، فقال علیّ (علیه السّلام): ((أمَا إنّ الله قد أحبط عملکما بندمکما على ما فعلتما)).(1)
قال أبو الحسن: والرافضة لجهلهم بأبی علیّ ومذهبه یرمونه بالنصب، وکیف وقد نقض کتاب عبّاد فی تفضیل أبی بکر، ولم ینقض کتاب الإسکافی المسمّى (المعیار والموازنة) فی تفضیل علی على أبی بکر.(2)
6. أبو هاشم الجبّائی (277 ـ 321هـ):
عبد السّلام بن محمد بن عبد الوهاب بن أبی علی الجبّائی، قال الخطیب: شیخ المعتزلة، ومصنّف الکتب على مذاهبهم. سکن بغداد إلى حین وفاته.(3)
وقال ابن خلّکان: المتکلّم المشهور، العالم بن العالم، کان هو وأبوه من کبار المعتزلة، ولهما مقالات على مذهب الاعتزال، وکتب الکلام مشحونة بمذاهبهما واعتقادهما، وکان له ولَد یسمّى أبا علیّ، وکان عامیّاً لا یعرف شیئاً. فدخل یوماً على الصاحب بن عبّاد، فظنّه عالماً، فأکرمه ورفع مرتبته، ثُمَّ سأله عن مسألة، فقال: لا أعرف نصف العلم، فقال له الصاحب: صدقت یا ولدی، إلاّ أنّ أباک تقدّم بالنصف الآخر.(4)
وقال القاضی، نقلاً عن أبی الحسن بن فرزویه، أنه بلغ من العلم ما لم یبلغه رؤساء علم الکلام. وذکر أنه کان من حرصه یسأله أبا علیّ (والده) حتّى یتأذى
ــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق: 47.
(2) المصدر نفسه.
(3) تاریخ بغداد: 11/55.
(4) وفیّات الأعیان: 3/183.
_____________________________________ [الصفحة 110] _____________________________________
منه، فسمعت أبا علیّ فی بعض الأوقات یسیر معه لحاجة، وهو یقول: لا تؤذنا، ویزید فوق هذا الکلام.(1)
کان أبو هاشم أحسن الناس أخلاقاً، وأطلقهم وجهاً. واستنکر بعض الناس خلافه مع أبیه فی المسائل الکلامیّة، ولیس خلاف التابع للمتبوع فی دقیق الفروع بمستنکر، فقد خالف أصحاب أبی حنیفة إیّاه، وقال أبو الحسن بن فرزویه فی ذلک شعراً، وهو قوله:
یقولون بین أبی هاشم = وبین أبیه خلاف کبیر
فقلت: وهل ذاک من ضائر = وهل کان ذلک ممّا یضیر
فخلّوا عن الشیخ لا تعرضوا = لبحر تضایق عنه البحور
فإنّ أبا هاشم تلوه = إلى حیث دار أبوه یدور
ولکن جرى فی لطیف کلام = کلام خفی وعلم غزیر
فایّاک ایّاک من مظلم = ولا تعد عن واضح مستنیر(2)
تألیفاته:
ذکر ابن الندیم فهرس کتب أبی هاشم، وقال: وله من الکتب:
1 ـ الجامع الکبیر. 2 ـ کتاب الأبواب الکبیر. 3 ـ کتاب الأبواب الصغیر. 4 ـ الجامع الصغیر. 5 ـ کتاب الإنسان. 6 ـ کتاب العوض. 7 ـ کتاب المسائل
ـــــــــــــــ
(1) طبقات المعتزلة، القاضی، 304.
(2) طبقات المعتزلة، القاضی، 305.
_____________________________________ [الصفحة 111] _____________________________________
العسکریات. 8 ـ النقض على أرسطوطالیس فی الکون والفساد. 9 ـ کتاب الطبایع والنقض على القائلین بها. 10 ـ کتاب الاجتهاد.(1)
انتشار مذهبه:
یظهر من الخطیب البغدادی أنّ مذهبه کان منتشراً فی أوائل القرن الخامس فی بغداد، وقد سمّى أتباعه بالبهشمیّة، وقال: هؤلاء أتباع أبی هاشم الجبائی، وأکثر معتزلة عصرنا على مذهبه؛ لدعوة ابن عباد وزیر آل بویه إلیه.(2)
7. قاضی القضاة عبد الجبار (324 ـ 415هـ):
هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمدانی الأسدآبادی، الملقّب بقاضی القضاة، ولا یُطلق هذا اللّقب على غیره.
قال الخطیب: کان ینتحل مذهب الشافعی فی الفروع، ومذاهب المعتزلة فی الأُصول، وله فی ذلک مصنّفات، وولِّی قضاء القضاة بالرَّی، وورد بغداد حاجّاً وحدّث بها.(3)
قرأ على أبی إسحاق ابن عیاش أوّلاً، ثُمَّ على الشیخ أبی عبد الله البصری، وکلاهما من الطبقة العاشرة من طبقات المعتزلة، وقد أطراه کلّ من ترجم له.
ــــــــــــــ
(1) فهرست، ابن الندیم، الفن الأوّل من المقالة الخامسة، 222.
(2) تاریخ بغداد: 11/113.
(3) تاریخ بغداد: 11/113.
_____________________________________ [الصفحة 112] _____________________________________
وفی مقدّمة کتاب (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة) ترجمة وافیة له، ومن أشهر تآلیفه: کتاب (المُغنی)؛ الّذی یقع فی عشرین جزءاً ممّا أملاه على تلامیذه، ولمّا فرغ من کتاب (المُغنی)، بعث به إلى الصاحب بن عباد، فقرّره الصاحب بما هو مذکور فی کتاب شرح العیون للحاکم الجشمی.(1)
قال الحاکم: إنّ له أربعمائة ألف ورقة ممّا صنّف فی کلّ فن، وکان موفَّقاً فی التصنیف والتدریس، وکتبه تتنوّع أنواعاً، فله کتب فی الکلام لم یسبق إلى تصنیف مثلها فی ذلک الباب، ثُمَّ سرد أسماء کتبه البالغة إلى 43، أشهرها (المُغنی) کما سبق، و(الأُصول الخمسة)، والأخیر أحسن ما أُلف فی عقائد المعتزلة.
وأمّا المطبوع من کتبه وراء (المُغنی)، ووراء (الأُصول الخمسة)، فکتابه (تنزیه القرآن عن المطاعن)، فقد أجاب فیه عن کثیر من الأسئلة الّتی تدور حول الآیات.
وکتابه الآخر (متشابه القرآن)، وقد طُبع فی القاهرة، فی جزءین.
وکتاب (المحیط فی التکلیف)، حقّقه السیّد عزمی، وطُبع بمصر.
إلى هنا تمَّ ما نُرید من ذکر أئمة المعتزلة، وهناک من یُعَدّ من أعلامهم، وهم شارکوا الأئمة فی نضج المذهب ونشره، ولکنّهم دونهم فی العلم والمنزلة، منهم:
1 ـ أبو سهل بشر بن المعتمر (المتوفّى عام 210هـ)، مؤسّس مدرسة اعتزال بغداد، وذکره الشریف المرتضى فی أمالیه.(2)
ــــــــــــــــــ
(1) لاحظ شرح العیون: 369 ـ 371.
(2) أمالی المرتضى: 186 ـ 187.
_____________________________________ [الصفحة 113] _____________________________________
2 ـ معمّر بن عبّاد السلمی (المتوفّى عام 215هـ)، خرّیج مدرسة اعتزال البصرة.
3 ـ شمامة بن الأشرس النمیری (المتوفّى عام 213هـ)، خرّیج مدرسة اعتزال بغداد.
وصفه ابن الندیم، بقوله: نبیه، من أجلّة المتکلّمین المعتزلة.(1)
4 ـ أبو بکر بن عبد الرحمن بن کیسان الأصم (المتوفّى 225هـ)، خرّیج مدرسة اعتزال البصرة.
5 ـ أبو موسى عیسى بن صبیح المزدار (المتوفّى 226هـ).
6 ـ أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسکافی (المتوفّى 240.
یعرّفه الخطیب، بقوله: محمد بن عبد الله، أبو جعفر المعروف بالإسکافی، أحد المتکلّمین من معتزلة بغداد، له تصانیف معروفة.(2)
وقد أکثر ابن أبی الحدید النقل عنه فی شرح النّهج، قال: کان شیخنا أبو جعفر الإسکافی (رضی الله عنه) من المتحقّقین بموالاة علیّ (علیه السّلام)، والمبالغین فی تفضیله؛ وإن کان القول بالتفضیل عاماً شائعاً فی البغدادیّین من أصحابنا کافّة، إلاّ أنّ أبا جعفر أشدّهم فی ذلک قولاً، وأخلصهم فیه اعتقاداً.(3)
7 ـ أحمد بن أبی دؤاد (المتوفّى عام 240هـ)، عرّفه ابن الندیم بقوله: من
ـــــــــــــــــ
(1) فهرست، ابن الندیم، الفن الأوّل من المقالة الخامسة، 207 .
(2) تاریخ بغداد، 5/416.
(3) شرح ابن أبی الحدید، 4/63.
_____________________________________ [الصفحة 114] _____________________________________
أفاضل المعتزلة، وممّن جرّد فی إظهار المذهب والذب عن أهله والعنایة به.(1) ولکن الأشاعرة وأهل الحدیث یبغضونه کثیراً، لأنّه هو الّذی حاکم الإمام أحمد فی قوله بقدم القرآن أو کونه غیر مخلوق، فأفحمه.
8 ـ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (المتوفّى عام 255هـ).
هو الّذی جمع إلى علم الکلام والفصاحة، العلم بالأخبار والأشعار والفقه، وله کتب، أحسنها: کتاب (الحیوان) فی أربعة أجزاء، و(البیان والتبیین) فی جزءین، و(البخلاء)، و(مجموعة الرسائل)، وأردأ کتبه کتاب (العثمانیّة).
وقال المسعودی فی (مروج الذهب)، عند ذکر الدولة العباسیة: وقد صنّف الجاحظ کتاباً استقصى فیه الحِجاج عند نفسه، وأیّده بالبراهین، وعضَّده بالأدلّة فیما تصوّره من عقله، وترجمه بکتاب (العثمانیة)، یُحلّ فیه عند نفسه فضائل علیّ (علیه السّلام) ومناقبه، ویحتج فیه لغیره؛ طلباً لإماتة الحق ومضادة لأهله، والله متم نوره ولو کره الکافرون.
ثُمَّ لم یرض بهذا الکتاب المترجم بکتاب (العثمانیة) حتّى أعقبه بتصنیف کتاب آخر فی إمامة المروانیّة وأقوال شیعتهم، ورأیته مترجماً بکتاب إمامة أمیر المؤمنین معاویة فی الانتصار له من علیّ بن أبی طالب (رضی الله عنه) وشیعته الرافضة، یذکر فیه رجال المروانیة ویؤید فیه إمامة بنی أُمیّة وغیرهم.
ثم صنّف کتاباً آخر ترجمه بکتاب (مسائل العثمانیة)، یذکر فیه ما فاته ذکرُه ونقضُه عند نفسه من فضائل أمیر المؤمنین (علیه السّلام) ومناقبه فیما ذکرنا. وقد نقَضْتُ علیه ما ذکرنا من کتبه لکتاب العثمانیة وغیره.
ــــــــــــــــ
(1) فهرست ابن الندیم: 212.
_____________________________________ [الصفحة 115] _____________________________________
وقد نقضها جماعة من متکلّمی الشیعة، کأبی عیسى الورّاق، والحسن بن موسى النخعی، وغیرهما من الشیعة، ممّن ذکر ذلک فی کتبه فی الإمامة، مجتمعة ومتفرقة.(1)
9 ـ أبو الحسین عبد الرحیم بن محمد المعروف بالخیّاط (المتوفّى 311هـ)، خرّیج مدرسة بغداد.
ترجمه القاضی فی فضل الاعتزال، وقال: کان عالماً فاضلاً من أصحاب جعفر، وله کتب کثیرة فی النقوض على ابن الراوندی وغیره، وهو أُستاذ أبی القاسم البلخی، ومن أشهر کتبه (الانتصار)، فیه رد على کتاب (فضیحة المعتزلة) لابن الراوندی، وطُبع بالقاهرة.
10 ـ أبو القاسم البلخی الکعبی (المتوفّى 317هـ)، خرّیج مدرسة بغداد.
عبد الله بن أحمد بن محمود أبی القاسم البلخی، قال الخطیب: من متکلّمی المعتزلة البغدادیین، صنّف فی الکلام کتباً کثیرة، وأقام ببغداد مدة طویلة، وانتشرت بها کتبه، ثُمَّ عاد إلى بلخ، فأقام بها إلى حین وفاته.
مؤلّفاته:
قد استقصى فؤاد السیّد، فی مقدّمته على کتاب (ذکر المعتزلة) لأبی القاسم البلخی، أسماء کتبه، وأنهاها إلى 46 کتاباً.
وقد نقل النجاشی فی ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن قبة، مکاتبته مع
ــــــــــــــــــ
(1) مروج الذهب: 3/237 ـ 238.
_____________________________________ [الصفحة 116] _____________________________________
البخلی، قال: نقل شیخنا أبو عبد الله المفید، قال: سمعت أبا الحسین السوسنجردی، وکان من عیون أصحابنا وصالحیهم المتکلّمین، وله کتاب فی الإمامة معروف به، وکان قد حجّ على قدمیه خمسین حجّة، یقول: مضیت إلى أبی القاسم البلخی إلى بلخ، بعد زیارتی الرضا (علیه السّلام) بطوس، فسلّمت علیه، وکان عارفاً، ومعی کتاب أبی جعفر بن قبة فی الإمامة، المعروف بالإنصاف، فوقف علیه، ونقضه بـ (المُسْتَرْشِد فی الإمامة)، فعدت إلى الرَّی، فدفعت الکتاب إلى ابن قبة، فنقضه بـ (المُسْتَثْبِت فی الإمامة)، فحملته إلى أبی القاسم، فنقضه بـ (نقض المستثبت)، فعدت إلى الرَّی، فوجدت أبا جعفر قد مات.(1)
أُفول المعتزلة:
لقد ابتسم الدهر للمعتزلة فی عصر أبی جعفر المنصور (136 ـ 158هـ)، وقد کان بینه وبین عمرو بن عبید صلة وثیقة، ولمّا هلک المنصور لم یُر للمعتزلة بعد زمانه نشاط یُذکر، خصوصاً فی أیّام المهدی؛ الّذی کان عدوّ المعتزلة، إلى أن أخذ المأمون زمام الحکم، وکان محباً للعلم والتعقّل، فنرى فی عصره رجالاً من المعتزلة یتّصلون ببلاطه، وکان لهم تأثیر بالغ علیه، ولمّا استفحلت دعوة المحدّثین إلى قدم القرآن، کتب المأمون (عام 218هـ) إلى إسحاق بن إبراهیم فی امتحان القضاة والمحدّثین فی خلق القرآن، فأحضر إسحاق بن إبراهیم المحدّثین، فأقرّوا بحدوث القرآن فخلّى سبیلهم، ثم أحضرهم مرة أُخرى، وبلغ عددهم إلى 26، فسأل عن عقیدتهم فی خلق القرآن، فأقرَّ أکثرهم ـ تقیة ـ بحدوث القرآن، إلاّ قلیلاً منهم، وعلى رأسهم أحمد بن حنبل.
ــــــــــــ
(1) رجال النجاشی: برقم 1023.
_____________________________________ [الصفحة 117] _____________________________________
ثُمَّ دعا المنکرین مراراً، وفی کلِّ مرَّة یستجیب عدد آخر ویقرّ بحدوث القرآن، حتّى لم یبق منهم إلاّ أربعة أشخاص، فدعاهم إسحاق بن إبراهیم مرّة أُخرى، فأقرّ اثنان منهم بحدوث القرآن، وبقى شخصان ـ أعنی: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح ـ على قولهما، فشُدّا بالحدید وبُعثا إلى طرسوس وکُتب معهما کتاباً، فلمّا صار إلى الرّقة، بلغتهم وفاة المأمون، فأمر والی الرّقة بإرجاعهم إلى إسحاق بن إبراهیم، فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم، ثُمَّ أطلق سراحهم.(1)
ولمّا تسلّم المعتصم مقالید الحکم، ضرب أحمد بن حنبل 38 سوطاً لیقول بخلق القرآن، وکان ذلک عام 219هـ.
وهذا هو المعروف بمحنة أحمد أو محنة خلق القرآن.
قضى المعتصم نحبه وخلفه ابنه الواثق (227 232هـ)، وکان للمعتزلة فی عصره شوکة، ولمّا قضى الواثق نحبه قام مقامه المتوکِّل، فأمر الناس بترک النظر والبحث، وترک ما کانوا علیه فی أیام الخلفاء الثلاثة، وأمر شیخ المحدِّثین بالتحدیث وإظهار السنّة، ومن هنا أخذ نجم المعتزلة بالأُفول، وإقصائهم عن الساحة الفکریة، وفسح المجال للمحدّثین، وکانوا یجلسون فی المساجد ویروون الأحادیث ضد الاعتزال ویکفّرون المعتزلة. سأل أحدهم أحمد؛ عمّن یقول: إنّ القرآن مخلوق، فقال: کافر، قال: فابن دؤاد؟ قال: کافر بالله العظیم.(2)
ثمّ إنّ ممّا أعان على انقراضهم، هو تشتّت مذاهبهم وفرقهم. فإنّ القوم تفرّقوا إلى مدرستین: مدرسة معتزلة بغداد، ومدرسة معتزلة البصرة، ولم تکن
ـــــــــــــــ
(1) تاریخ الطبری: 7/195 ـ 206، بتلخیص.
(2) تاریخ بغداد: 3/285.
_____________________________________ [الصفحة 118] _____________________________________
ـ حتّى فی نفس کلِّ واحدة منهما ـ وحدة فی التّفکیر، فصاروا فِرقاً تنوف على العشرین، وعند ذلک بلغوا الى درجة من الضّعف والانحلال، وإن کان ینجم بینهم رجال مفکّرون، کأبی علیّ الجبّائی (المتوفّى 303هـ)، وولده أبی هاشم (المتوفّى 321هـ).
وجاءت الضّربة الأخیرة من جانب أبی الحسن الأشعریّ، الّذی کان ربیب أبی علیّ الجبّائی وتلمیذه، ورجوعه عن الاعتزال بالتحاقه بأهل الحدیث، فقد رقى فی البصرة یوم الجمعة کرسیّاً، ونادى بأعلى صوته: (من عرفنی فقد عرفنی، ومن لم یعرفنی، فأنا أعرّفه بنفسی: أنا فلان بن فلان، کنت أقول بخلق القرآن، وأنّ الله لا تراه الأبصار، وأنّ أفعال الشّرّ أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع، معتقد للردّ على المعتزلة، مخرج لفضائحهم ومعایبهم)(1).
فقد کان لرجوع من کان من أکابر تلامیذ أبی علیّ الجبّائی أثر بارز فی النّفوس، وبذلک أخذ الدهر یقلب علیهم ظهر المجنّ، تقلّب لجّة البحر بالسفن المشحونة والفلک المصنوعة، بین بالغ إلى ساحل النّجاة وهالک فی أمواج الدّهر.
هذا هو القادر بالله، أحد خلفاء العبّاسیین، قام فی سنة (408هـ) بنفس العمل الّذی قامت به المعتزلة فی عصر المعتصم والواثق. یقول الحافظ ابن کثیر: وفی سنة (408هـ)، استتاب القادر بالله الخلیفة، فقهاء المعتزلة، فأظهروا الرّجوع؛ وتبرّأوا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذت خطوطهم بذلک، وأنّهم متى خالفوا، أحلّ فیهم من النّکال والعقوبة ما یتّعظ به أمثالهم،
ــــــــــــــــ
(1) فهرست، ابن الندیم، الفن الثالث من المقالة الخامسة، 231، وفیّات الأعیان: 3/275.
_____________________________________ [الصفحة 119] _____________________________________
وامتثل محمود بن سبکتکین أمر أمیر المؤمنین فی ذلک، واستنّ بسنّته فی أعماله الّتی استخلفه علیها من بلاد خراسان وغیرها؛ فی قتل المعتزلة والرافضة والإسماعیلیّة والقرامطة والجهمیّة والمشبّهة وصلبهم وحبسهم، ونفاهم وأمر بلعنهم على المنابر، وأبعد جمیع طوائف أهل البدع ونفاهم عن دیارهم، وصار ذلک سنّة فی الإسلام.(1)
قال الخطیب: (وصنّف القادر بالله کتاباً فی الأُصول، ذکر فیه فضائل الصحابة على ترتیب مذهب أصحاب الحدیث، وأورد فی کتابه فضائل عمر بن عبد العزیز، وإکفار المعتزلة والقائلین بخلق القرآن، وکان الکتاب یُقرأ کلّ جمعة فی حلقة أصحاب الحدیث بجامع المهدی، ویحضر النّاس سماعه).(2)
ــــــــــــــــ
(1) البدایة والنهایة: 12/6.
(2) تاریخ بغداد: 4/37 و38.
__________________________


طباعة   البريد الإلكتروني