البكاء على سيد الشهداء عليه السلام

(وقت القراءة: 4 - 8 دقائق)
البكاء على سيد الشهداء عليه السلام
 

هناك شعار للبكاء ذكره القرآن الكريم ويؤكد عليه الإمام زين العابدين(ع) فعن أبي عبدالله(ع) قال: بكى علي بن الحسين على أبيه الحسين بن علي(ع) عشرين سنة أو أربعين سنة، وما وضع بين يديه طعاماً إلا بكى على الحسين، حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنما اشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة لذلك([1]).
وفي رواية أُخرى: أشرف مولى لعلي بن الحسين(ع) وهو في سقيفة له ساجد يبكي، فقال له: يا مولاي يا علي بن الحسين أما آن لحزنك أن ينقضي، فرفع رأسه إليه وقال: ويلك ـ أو ثكلتك أمك ـ والله لقد شكى يعقوب إلى ربه أقل مما رأيت حتى قال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}([2])، إنه فقد أبناً واحداً وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبحون حولي([3]).
ونلاحظ هنا أن الإمام زين العابدين(ع) واجه نفس الموقف الذي واجهه النبي يعقوب(ع) في إنكار ونكير أبنائه عليه في البكاء والحزن الطويل على يوسف(ع)، وهذا الجواب الذي صدر من يعقوب(ع) أصبح شعاراً للبكاء، لأن القرآن الكريم يقص من أفعال وأقوال الأنبياء وغيرهم من الأوصياء ما يكون عبرة نعتبر بها، فعندما اعترض أبناء يعقوب حينما أبيضت عيناه من الحزن {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}([4]) أجابهم(ع) {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}([5]) وهنا نلاحظ أن جواب يعقوب(ع) كان في جملتين:
الجملة الأولى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} فهو يريد أن يوضح لهم أني لست أشكوا بثي وحزني من الله بل إلى الله، والفرق واضح بينهما، فإنه لو كان حقيقة بكاءه ومنطلقه أشكوا من الله فالشكاية هنا على الله ـ والعياذ بالله ـ وهذا نوع من السخط على الله عَزَّ وَجَلَّ وقدره، ولكن الشكاية هنا هي شكاية إلى الله يعني نوع من التوجه إلى الله عَزَّ وَجَلَّ لعرض هذه المحنة وهذه البلية والإستمداد والمدد والفرج من الله عَزَّ وَجَلَّ، وبالتالي يكون البكاء الذي عنوانه هو الشكاية إلى الله وليس إلى المخلوقين هو نوع من الدعاء، ونوع من التوجه ونوع من السؤال، ونوع من ذكر الله فـ {أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} هو نوع من ذكر الله لأنه توجه إليه سبحانه وتعالى وهذا نظير ما ورد في دعاء الندبة «وإليك أستعدي فعندك العدوى..»([6]) يعني طلب المقاضاة وبالتالي فإن هذا البكاء سوف يكون خطاب وحوار مع الله واستغاثة وتوجه إليه تعالى، فعندما يبكي الباكي فإنه يتوجه بألم وحزن يبثه إلى الله ينفس عن آلامه وحسرته عبد الباري تعالى، وأنه يا ربي ويا إلهي أن هذا الصفي من أصفيائك وأوليائك هكذا ظلم، وهذا بعينه مفاد الدعاء «اللَّهُمَّ ألعن أول ظالم ظلم حق محمد وآل محمد..»([7]). ومفاد «اللَّهُمَّ رب الحسين أشف صدر الحسين» ([8]).
البكاء نوع من الإصرار على مشروع التغيير والإصلاح الشامل:
هذا البكاء هو نوع من الطلب الملح والتوجه به إلى الساحة الربوبية لينتقم من بناء وكيان ونظام الظالمين ومن مسيرة اللا عدالة، وفي نفس الوقت هو طلب من الله عَزَّ وَجَلَّ أن ينجز مسيرة العدالة على يد من أعدهم الله لأن يكونوا هم ذوي كفاءة وقدرة إلهية لقنوات العدل الذي يعجز عنه كل البشرية وهذه قضية مصيرية للأمة في الأرض على يد خلفاء الله في أرضه وأوليائه وأصفيائه.
فالبكاء يحمل نوع من هم المسؤولية الكبيرة إتجاه الدين الإلهي بل هو إقامة الدين من التوحيد والعدل في الأرض على يد أصفياء الله وأوليائه من النبي وعترته صلوات الله عليهم.
ولا يخفى أن طلب الانتقام هنا ليس هو بمعنى التشفي النفساني النابع من تراكم أحقاد، بل هو نسخ وإزالة أعراف الظالمين في البشر واستبدالها بأعراف الصالحين أو بالملة الحنيفية المتمثل بمنهاج النبي’ وأهل بيته(ع)، وهذا ما تربينا عليه الشريعة والدين، وبالتالي هو إزالة البراثن والمفاسد التي عشعشت في عادات وأعراف وسلوكيات المجتمع والبشر وإزالة الظلم عن الناس، ولكن ليس كشعار فضفاض، وإنما عبر أسس ونسيج برنامجي إلهي وهو النقمة والانتقام من الظالمين الذين هم عامل أساسي لبقاء كيان ونظام الظلم والفساد في الأرض.
روي أنه لما قتل عبيدالله أبن زياد سجد علي بن الحسين(ع) شكراً لله تعالى وقال: الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من عدوي، وجزى الله المختار([9]).
ففرح الإمام زين العابدين(ع) من انتقام المختار ليس هو للتشفي النفسي الشخصي وإنما هو من أعراف بني أمية التي تفشت في العراق قد دكدكت وأزيلت بانتقام المختار، لأن عناصر وأتباع بني أمية بتواجدهم في المجتمع كانوا يربون ويفشون فيه النهج الأموي الذي هو نهج فساد وإنحاط أخلاقي، والعراق الذي هو بلد النبيين والصديقين كيف يكون مآله بلد فجور الامويين وفسوقهم ومجونهم؟!
ولكن عندما تقطع هذه الجذور الخبيثة منه فهذا هو معنى الانتقام وهذا يعني إزالة عروق الفساد التي أصبحت متكثرة ومتفشية في أعراف ونسيج المجتمع.
البكاء عبادة:
فالبكاء عبادة من العبادات التي نتقرب بها إلى الله، وهذا نظير الصلاة حيث نتوجه فيها وبها إلى الله، وكذلك الصوم حيث يتوجه به إلى الله، وكذلك الحج والزكاة والزيارة فكذلك البكاء، ولذلك نرى القرآن الكريم يمدح البكاء إلا ما ندر، وعكس ذلك نرى الفرح والبطر إلا ويذمه القرآن إلا ما ندر، فالبكاء الذي يمتدحه القرآن هو كالصلاة التي يتوجه بها العبد إلى الله {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ}، فإن الإنسان عندما يبكي فهو يتوجه إلى الله عَزَّ وَجَلَّ وهو شكوى إلى الله من الظلامة وتفشي الظلم ومن العدوان الذي اعتدي به على خلفاء الله وحججه وأوليائه الذين هم نور وطهارة وأمل في إسعاد البشرية، فيخفت القلب والروح في التوجه والشكاية إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، فمثلاً الطفل أو الضعيف عندما يبكي فإنه يتوجه ببكائه إلى قوي ويكون بكائه بمثابة نداء واستغاثة ودعاء واستنصار لمن يوجه البكاء له فبكائه ليس يأساً ولكن طلب وإلحاح لإنجاز ما يريده.
فنفس البكاء هذا هو شكاية، ونحن البشر ضعفاء إتجاه القدرة الإلهية لا أتجاه المخلوقين الآخرين، ولذلك نرى أن يعقوب(ع) لم يقل لأولاده أشكو بثي وحزني إليكم أنتم أيها الظالمون ليوسف وإنما إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن خلال كل هذا يتضح أن الشكاية هي عبارة عن التماس ونوع تذمر من الظالمين ولكن هو بالتوجه إلى الحضرة الإلهية، وهو نوع من الإعتراض على الظالمين لكن في معرض طلب المقاضاة الإلهية ليكون تعالى هو الحكم، وبالتالي سوف يكون هذا البكاء منطوي على أمل وطلب الإصلاح ورجاء للمستقبل الواعد.
الجملة الثانية: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فسرت هذه الآية في الروايات بعدم اليأس وفي نفس السورة تفسير لها وذلك عندما جاء البشير بقميص يوسف حيث قال تعالى {فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}([10])، يعني رجاء الأمل والفرج والانتظار للغوث من الباري تعالى، فبكائه لم يكن أياس وليس حبط آمال وهمم بل هو تطلع إلى المشروع وطلب إنجازه من الله، وهذا هو عنفوان النشاط والحيوية والحركة والعمل وذلك بسبب الاعتقاد بمفاد {وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي الاعتقاد والعلم بأن الله تعالى منه الفرج وحل كل عقدة وشدة لان الله تعالى لايعجز عن شيء وهو قادر على كل شيء، فأنتم تقولون أن يوسف انتهى وانقضى عمره واندرس أما أنا فلا زلت أنتظر الأمل والفرج من الله وهذا التوجه والإلحاح في الدعاء بأسلوب البكاء وبلغة الشكاية إلى الله تعالى كي يرفع هذه المحنة والبلية ويكشف هذه الغمة وبالتالي سوف يمدد بالشيء الموعود بالإنجاز {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}([11]).
ومن خلال هذا كله يتضح أن البكاء عبارة عن استدعاء من الله أن ينجز ذلك المشروع الإلهي وبالتالي فهو إصرار على إصلاح وبناء ما تهدم وبناء ما لم يبنى فهو عنفوان الإصرار والثبات على الهدف والاستقامة.
([1]) كامل الزيارات لابن قولويه: 212 الباب 35.
([2]) سورة يوسف: الآية 84.
([3]) المصدر السابق.
([4]) سورة يوسف: الآية 85.
([5]) سورة يوسف: الآية 86.
([6]) دعاء الندبة، مفاتيح الجنان: 537 ط. دار التعارف التاسعة.
([7]) زيارة عاشوراء.
([8]) كامل الزيارات: 414.
([9]) بحار الأنوار ج45: 385.
([10]) سورة يوسف: الآية 96.
([11]) سور ة يوسف: الآية 87.


طباعة   البريد الإلكتروني